لا يختلف السودان عن أية دولة من الدول العربية التي تعرّضت لفترة طويلة من سياسات حُسن البيان ووعود للنسيان، ونصيب السواد الأعظم من الشعب الخطب العصماء والتنمية التي ُتختصر في ربط الأحزمة ومقاومة القوى الإمبريالية بالشعارات، مقابل ما يحصل عليه أعضاء الحزب الحاكم والذين ينفردون بخيرات البلاد مع "حزبنة" كل محاور الدولة، والحديث يكون دائماً وأبداً عن إصلاح قادمٍ في القريب العاجل.
ومن جهة أخرى، فإن القاعدة الأساسية للوعي السياسي أن الوعي السياسي، قد ُدفن في خضّم مشاكل الحياة اليومية، وتخلّت عنه الأجيال المعاصرة التي اختزلته في البحث عن لقمة العيش، حيث يرتبط الوعي السياسي بالمجتمع المدني والتصرفات السياسية الشعبية، وأن لا ُتؤسس الأحزاب على قواعد إقصائية وتحيّز بيّن يُهمل تشكيل الوعي العام مقابل الوعي الخاص بكل حزب، وتخوين وشيطنة كل مخالف، واختفاء البوصلة الوطنية لبعض الأحزاب على يد من يدعمها من خارج القطر.
ويعتقد الكثيرون في السودان أن النخّب السياسية تريد أن تحكم الشعب فقط، ولا تريد أن يحكم الشعب نفسه، وفي السياق نفسه فإن المجالس العسكرية يجب أن تكون شريكاً صلباً للشعب تلبي طموحاته ولا تفرض عليه أجندات لا يكون فيها توافق نسبي بداعي الخوف من وصول الأحزاب الدينية الانتهازية التي تعيش على هامش الشعارات الثورية، ولتتحكم تدريجياً في صنع القرار الداخلي في البرلمانات في المراحل الفاصلة بين الثورة والاستقرار الظاهري، وتدير المجالس التشريعية وتبطئ وتعرقل أعمال المجالس التنفيذية، وبدهاء شديد تتحالف مع الداخل والخارج، وخاصةً ما تبقى من إرث الحزب الحاكم السابق والذي أسّس في سنوات طويلة آلية فساد غير قابلة للإبطال، وتعيد بناء نفسها بطريقة أو بأخرى من بوابات عديدة ُتفتح لها لتفتح هي لغيرها الوصول لمكتسبات معينة في تبادلٍمنفعيّ يكون ضحيته الشعب.
الدعم المناسب من كل الدول العربية المؤثرة للحفاظ على وحدة السودان يجب أن يساهم في حوكمة تعاضد وتعاون القوى العسكرية والأمنية مع حراك الشباب غير المسيّس حزبياً، وتمكين الشارع من فهم سياسي واقعي معمّق لإبعاد العبث السياسي وحكم لا يخضع للترشيد بدعوى الديمقراطية المباشرة وبأي ثمن والدلائل أمامنا لا تدع مجالاً للشك في بعض دول "الخريف العربي"، التي فرض فيها العقد باسم الحرية التي تقود للعبودية المستترة في نهاية المطاف.
فالأكثر ملائمة للوصول لقبة البرلمان أمر جلل أخذ من الأمم عقوداً طويلة، وهو ما لن يحدث بين ليلة وضحاها ودون تشكيل وعي كبير للجماهير ومن دون تمكين سياسي لا يقتصر على الحياة الحزبية، وذلك حتى ترى الجماهير الثائرة الضوء في نهاية النفق المظلم، وليس انعكاس الضوء فقط ومكتسبات حالية يقابلها خسائر مستدامة مستقبلية ويجب أن يدرك الشعب السوداني أن دولته مطمع جميع القوى الدولية للموقع الجغرافي والثروات الطائلة غير المكتشفة والمستغلة بعد، وهي إحدى الدول الرئيسية في منظومة تستخدمها هذه القوى بهدف محاولة منع نهوض الأمة العربية من تحت الرماد وبالتالي تفكيكها وإثارة النزاعات والحروب الأهلية بين أبناء البلد الواحد، وكل ذلك لا يعني التخلي عن مطالب الثورة الرئيسية والتي تجعل من الشارع جزءاً من آلية الحكم بينما يكون المجلس العسكري رمانة الميزان وحكومة توافقية انتقالية، وتشكيّل مجلس أمناء للثورة ليقوم بدور الرقابة وضبط الجودة لمخرجات الفترة القادمة، وُتشكّل لجنة عليا لتعديل الدستور ويتم التصويت عليه شعبياً.
ولا أرى أن القطيعة بين الأجيال ستكون حجر عثرة في الحالة السودانية كما حدث في باقي الثورات العربية وذلك لطبيعة الشعب السوداني وتركيبته الاجتماعية، وفيما يخصّ قوى المعارضة والتغيير فهي ُتمثل شريحة ضيقة من السكان، وحتى وإن كانت مهنيّة فهي تمثّل فكرَ وتوجّه قيادات تلك التجمعات والنقابات المهنية، والتحدّث كمفوّض عن الشعب فيه تجاوز لثورة الشعب، وهو تمهيد لما ستؤول إليه الأمور في نهاية المشهد، وستحكم النخب السودان ويرجع الشارع إلى الشارع بعد أن زرع الشباب ليحصد غيرهم، وينتهي حلم المجتمع المدني المعاصر.
فسودان النيلين والشعب الطيب الكريم المتسامح، والتاريخ، سودان المثقفين والمتعلمين والعلماء، هي الدولة العربية الأفريقية المرشحّة لأن تكون "صين أفريقيا"، والتحدي الحقيقي يكمن في أن يرضخ الجميع للإرادة الوطنية، بعد أن تحدّدت معالم تلك الإرادة على يد جيلٍ فيه النساء والشابات لا تقلن جسارةً وشجاعةً عن الرجال والشباب، في ثورة ستهزم فيها الورود الطلقات ولن تهزم فيها روح «حبوبتي كنداكة».