يقتحم مصطلح «الهوة السياسية» آذاننا دوماً، إن كنا نتابع الأحاديث التي تنهمر صانعة للأحداث السياسية ومعلقة عليها، لاسيما في أوقات المشكلات والأزمات والحروب. فنحن طالما سمعنا واحداً من الوسطاء أو المفاوضين يقول بملء فيه: «الهوة واسعة بين الطرفين»، ثم يؤكد ضرورة «جسر الهوة» أو ردمها. ووصل الأمر إلى الحديث عن هوة بين الشرق والغرب، أو تاريخ من سوء التفاهم، عبر عنه الشاعر البريطاني روديارد كبلنج (1865- 1930) المولود بالهند، والحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1907 بعبارة شهيرة هي: «الشرق شرق والغرب غرب‏..‏ ولن يلتقيا أبداً». وهناك أيضاً الهوة التي تقوم دوماً بين التنظير والتدبير، أو بين الفكر والواقع، وبين السلطة والشعب.
إن أي هوة تنشأ بين طرفين متقابلين أو متنافسين أو متصارعين في المجال السياسي أو الإداري أو الاجتماعي، تصنع في ذهن من يتحدث عنها، ويقر بها، ويعمل على إنهائها، صورة مادية تبينها وكأنها شرخ في جدار، أو مساحة فارغة بين كتلتين صخريتين من جبل واحد، أو جزء مرفوع من مكانه في قضبان سكة حديدية تنتظر القطارات، التي تزمجر فوقها مسرعة بالناس بين محطات القرى والمدن.
لكن هذه الصورة المادية لا تمثل الحقيقة بالطبع، إذ إن الهوة السياسية تنشأ عن شيء معنوي أو رمزي، وتظل قائمة فيه، وملتصقة به، وماضية معه، لتبقى الحروف والكلمات والإشارات والإيماءات هي مادتها الأصيلة. فالوسيط في نزاع يتحدث عن هوة حين ينصت إلى الطرفين، فيدرك أن كلا منهما لا يزال لديه ما يمنعه من التفاعل الطبيعي والإيجابي مع الآخر، أو حين يقدر الأهداف التي يسعى كل طرف إلى تحقيقها، ويرى أنه في اللحظة الراهنة لا يمكن لأي من الطرفين أن يشعر بأنه قد حقق أهدافه، أو اقترب من هذا، وبذا لن يفعل ما يؤدي إلى جسر الهوة.
ووجود هوة سياسية يرجع إلى عدة أسباب، أولها: قد يكون هو عدم توفر حقائق كاملة لدى أي من الطرفين أو كليهما حول طبيعة المشكلة ومسارها ومآلها. وثانيها: قد يرتبط بسوء النية، الذي يحجب كل طرف عن الانفتاح على الآخر بعقل مرن وصدر رحب، ويؤجل دوما التفاهم، أو يفتح الطريق أمام تصرفات وتدابير تمنع الوصول إليه. وثالثها: يتعلق بطبيعة النزاع، فذلك الذي يكون حول مسائل عابرة يمكن فيه جسر الهوة بين المتنازعين سريعاً، والعكس صحيح، حين يكون النزال حول قضية جوهرية، ليس من اليسير على أي طرف أن يقطع المسافة سريعاً ليلتقي الطرف الآخر. ويختلف الأمر بالطبع في حال السلم عنه في حال الحرب، ففي الأخير، تكون الهوة متسعة إلى درجة المواجهة العسكرية، التي قد تنتهي بتسوية غير حاسمة، وبذا تظل الهوة مستمرة لفترة طويلة، لاسيما إن ظلت الرغبة في الثأر قائمة لدى الطرف المهزوم. وقد تنشأ الهوة نتيجة الظلم الاجتماعي المرتبط بما يسمى «فائض القيمة»، مثل الفجوة التي تقوم بين الطبقات، وقد تؤدي إلى صراع مرير بينها، أو قيام حالة من الحنق المكتوم، والتعاون الموزع بين أولئك الذين يقتنعون بقيام تعاون بين المتفاوتين مادياً، وبين من يطلبون ضرورة الصراع معهم.
ويمكن النظر إلى مثل هذه الهوة باعتبارها نوعاً من الفراغ السياسي، إن عرفناها على أنها مساحة غير مأهولة بالثقة والاطمئنان والمعلومات الكافية الجلية، والنوايا الطيبة والرغبات الجادة الصادقة التي تجعل الدول تتعاون فيما بينها، وتميل إلى التفاعل الخلاق بدلاً من الصراع المفتوح. لهذا فإن جسر الهوة أو ردمها يتطلب ملء هذه المساحة بالثقة، والمعلومات الواضحة، والمصالح المتبادلة، والإيمان بأن التقارب أفضل كثيراً من التباعد في السياسة وغيرها.