عرفت الثقافة الأفريقية والعربية وجوهاً عربية بارزة، أثْرَت الفكر الأفريقي بما تعرفنا عليها من خلاله في الفكر العربي. وكان علي مزروعي بين من برز من هؤلاء مجادلا بل وناشطاً أحيانا من ممباسا (محل مولده في كينيا) إلى أوغندا وتنزانيا.. وعرفنا من كتاباته الكثيرة ما بين أفريقيا والعرب حتى صاغ فكرته المعروفة حول «أفرابيا».
لكن ما فاجأني مؤخراً، وبعمق، هو تراث شخصية مصرية أثْرت حركة الجامعة الأفريقية Pan –Africanism، ولم يتطرق إليها أحد، ولم يصلنا عنها باللغة العربية شيء يذكر، رغم تعرضها للسياسات البريطانية خصوصاً والغربية عموماً، دفاعاً عن مصر وتأييداً ومؤازرةً للحركة الوطنية المصرية، رغم أن هذه الشخصية لم تعش في مصر سوى بضع سنين، وقضت معظم حياتها مندمجةً في عالم الثقافة الأفريقية بانجلترا وأوروبا والولايات المتحدة، كأحد أبرز الناشطين في صفوفها. ويتوجب الآن أن نعود للتعريف بهذه الشخصية وسط الحراك العربي الأفريقي المهدد بالتفتت والصراع. هو «محمد علي دوس» (1866 – 1945)، كاتب وناشط سياسي، ولد بالإسكندرية لأب مصري وأم سودانية. كتب عن تاريخ مصر كتابا هاماً عنوانه «في أرض الفراعنة.. تاريخ مختصر لمصر» بالإنجليزية عام 1911، واشتغل مع قيادة حركة الوحدة الأفريقية خلال حياته بين لندن ونيويورك وباريس والقاهرة وبلاد الساحل الغربي لأفريقيا، والتي أكملها في نيجيريا حتى وفاته بلاجوس عام 1945. وطوال حياته الطويلة مع الأفارقة، لم ينس «دوس» أنه وطني مصري أفريقي يتعمق في تاريخ بلاده حتى ثورة 1919 وعقبها لفترة، وقد قابل أحمد عرابي والعرابيين، كما لقي مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول.
عاش محمد علي دوس في الإسكندرية فترة طفولته، ورحل عنها عقب وفاة والده في معركة التل الكبير، خلال مشاركته مع جيش عرابي، حيث ارتحل طفلا إلى إنجلترا وأكمل تعليمه الجامعي هناك. انخرط «دوس» في قضايا التفرقة العنصرية والتمييز ضد الملونين والزنوج وخاصة عند ارتحاله إلى الولايات المتحدة، حيث عمل مع زعماء حركات الزنوج والملونين (وليم ديبويس وماركوس جارفي).
وأسس «دوس» عدة صحف، وكتب في العديد من المجلات، متابعاً أوضاع الملونين، وحركة شعوب ومسلمي آسيا وأفريقيا، وتاريخ مصر ونضال زعمائها، وإن برز عنده الاهتمام بالعالم الإسلامي، وقد قابل زعماء أفريقيا القادمين من المستعمرات، كما قابل زعماء الثورة المصرية. وبدأت رحلات «دوس» إلى بعض البلدان الأفريقية مثل سيراليون وليبيريا بالتزامن مع تصاعد الدعوات لعودة الزنوج (من أرض العبودية والدياسبورا) إلى أرض الوطن. ثم استقر في نيجيريا حيث انخرط في حركتها الوطنية مع الزعيم «أزيكوي» حتى وفاته عام 1945.
عاش «دوس» مرحلة شبابه خلال فترة النهوض والتنوير مطلع القرن العشرين، بين الملونين والزنوج في الغرب، وتحرك مع شعوب آسيا وأفريقيا لنيل حق تقرير المصير، ونشط دوره الوطني بالتحامه مع قيادات حركة الوحدة الأفريقية في الولايات المتحدة بين ماركوس جارفي ووليم ديبويس، باتجاهيهما المختلفين؛ بين المطالبة بعودة الزنوج لوطنهم في أفريقيا، وبين التحرر الوطني لجميع شعوب القارة.. وخلال ذلك أسس «دوس» صحفاً عبّر فيها عن رأيه وآراء الحركات الأفريقية، وقد اشتهرت منها خصوصاً مجلة African Times ومجلة African Times and Orient، لتعبرا عن أفقه الآسيوي الأفريقي الأوسع، حتى اعتبره بعض الكتاب من المبشرين بـ«حركة باندونج».
عاش «دوس» إذن أجواء التنوير والتحركات الشعبية قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل ذلك كان متأثراً بوطنية والده، ثم عاد إلى مصر حيث تعرف على العرابيين، وعلى مصطفى كامل، ومحمد فريد، وأعجب بهما وكتب عنهما في الصحف البريطانية.
ومن هنا تيسر لـ«دوس» التأثر بما ساد بعد هذه الحرب من تحركات شعبية للمطالبة بتنفيذ الوعود الغربية حول الحكم الذاتي والاستقلال، بل وبما أعلنه الغرب في أنحاء عالم الاستعمار من جهة، ونتائج ثورة 1917 البلشفية من جهة أخرى، حتى أنه رد بعنف على الرئيس الأميركي ويلسون عند تسليمه بفرض الحماية البريطانية على مصر، فندد بتناقضاته، مما حقق لكتابات «دوس» شهرة كبيرة.
وعلاوة على انخراط محمد علي دوس مع زعماء ثورة 1919، وصلته الوثيقة بقيادة الحركة الوطنية المصرية، ورده على تصريحات الرؤساء الأميركيين بشأن مصر، فقد ألّف مبكراً كتابه «مختصر تاريخ مصر»، متهماً أوروبا بتخريبها عبر الديون حتى احتلتها بريطانيا عام 1882.
وكتب عن صداقته مع مصطفى كامل ومحمد فريد أثناء زياراتهم أو إقاماتهم في أوروبا. وكان دائماً يتحدث عن أهمية «الحزب الوطني» بقيادة هذين الزعيمين المصريين قبل ظهور «حزب الوفد»، بل وسجل أحد مؤرخي حركة الوحدة الأفريقية مسعاه لإشراك زعماء هذا الحزب في مؤتمر عالمي مناهض للاستعمار في بلجيكا عام 1927، وحضره فعلا حافظ رمضان بك ويوسف إبراهيم.
وقد ظهرت مساعدته للحركة الوطنية المصرية من علاقته الوثيقة منذ نشأته قرب أحمد عرابي، حتى رفقته لمصطفى كامل ومحمد فريد في أوروبا والتعريف بالقضية المصرية والقضايا الأفروآسيوية، بل واندماجه مع حركات الاستقلال الأفريقية منذ مطلع القرن العشرين، حتى أن كاتباً أوروبيا مثل «إيان دو فيلد» كتب عنه كتاباً في 800 صفحة عام 1972، لم يترجم حتى الآن، رغم أنه يمثل ثروة للثقافة العربية والأفريقية التي تحتاج دائماً لتعميق جذورها بيننا.

*رئيس مركز البحوث العربية والأفريقية- القاهرة