تزينت سماء باريس المتعبة، بوسام «أمل» بعدما واصلت ما يقارب الخمسة عشرَ ساعة، تراقب دموع الأوفياء لجدرانها من كل بقاع الأرض، فعلى الرغم من حالة الحريق المدمرة للكثير من أجزاء الكنيسة إلا أن ركائزها وقواعدها - كما أكد مختصو العمارة الفرنسية- نجت بأغلبها.
إن ذلك الحريق كان مختلفاً، فلم يخلف رماداً فحسب، إذ تصاعدت مع آخر أذيال الدخان، أصوات صداحة مبشرة بإنسانية حقيقية. فقد أزداد أمل أهالي نوتردام من جميع أقطاب العالم، بإعلانها الانتصار على الدمار والحريق والموت، وتضاعف الأمل حينما أُحرقت الكراهية وأشواك الاختلاف، لأن نوتردام التي يقف على عتباتها 30 ألف زائر كل يوم، والتي لم تضع عائقاً أو فرقاً لما تعطيه من حب أو جمال بين زوارها، بغض النظر عن مبتغاهم سواء أكان محباً للفن، أو محباً للاستطلاع، وجدت تكاتفاً قيمياً أخلاقياً بعيداً عن شوائب الكراهية، على النقيض مما حاول البعض أن يثيروه من نعرات ومقارنات بائت بالإهمال المستحق، إذ أنه من المستهجن عنهم ما تناقلوه من مشاعر لا تمت للإنسانية بصلة مشبعة بالتشفي والاستهتار بمشاعر الآخرين من أشخاص هم نفسهم من اجتمعوا لتدمير الحضارة الإنسانية في مجتمعات أخرى مثل العراق وسوريا وسريلانكا، وغيرها.
فما شهدناه من ردود أفعال ومن تعدد آراء عن هذه الحادثة من كافة الطوائف والأعراق وقبلها ما رآه العالم من إدارة أزمة نيوزيلندا الواقعة مارس الماضي، يبشر بوجود إرادة عالمية مجمعة على القضاء على كل ما يشوب صفاء الإنسانية، ونقاء المحبة بين الأديان أولاً. ويجعل من الرؤية الإنسانية العميقة مترقبة بشغف لـ «العودة»، سواء أكانت عودة الزوار على أبواب نوتردام، أو عودة الطمأنينة لقلب المساجد، أو عودة السلام والتراحم والتعايش والتسامح العالمي.
كما لفت الأنظار والعقول قبلها، ما عكسته استراتيجية الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، من الفكرة المبنية على المناشدة العقلية، الساعية للتشييد والبناء التي يتميز بها الفرنسي عبر تاريخه، منخرطاً بالانسجام مع الضرورة الزمانية العالمية عامةً وفي فرنسا خاصةً، متخذاً من قرارات معالجة تحديات الحريق، نموذجاً ذا أبعاد خفية، لتعبئة ظرفية الشوارع الفرنسية، بإجماع فرنسي مقدَّس، بغية تحويل مشاهدة الدمار والخراب التي عاشها الشارع الفرنسي منذ عدة أشهر إلى مصالحة وطنية. إذ يعتبر من العقلاني تحويل العثرات إلى جسور، والألم إلى أمل. وبذلك يستفاد من محاولة النهوض الوطني الساعي لإعادة رونق الكاتدرائية، ويعيد معها اللحمة الوطنية بروابطها المتينة أكثر من أي وقت مضى.
وفي السياق الذي اجتمع به العقلاء والشرفاء، مسخرين كل ما أوتي لهم من إرادة وكفاءات، سعياً لإحلال السلام في كل جنبات العالم، تكللت جهودهم بمشروع «إنسانية عابرة للأديان»، مما يصنع حاجزاً فولاذياً في وجه كل من يتجرأ على استغلال الأحداث العالمية الإنسانية بالدرجة الأولى، لتغذية الكراهية وتوسيع منابعها، وبخاصة مع حالة الحزن العالمية التي زادت الوحدة العالمية وحدةً واللحمة الإنسانية لحمةً، فالبشر على ما بينهم من اختلافات وصراعات، يشعرون في قرارات أنفسهم، وإن كان ذلك بنسبٍ متفاوتة، أنهم أبناء حضارة إنسانية مشتركة، ترى ثروتها في اختلاف اللغات والثقافات والديانات.
إن كاتدرائية «نوتردام» العريقة، بجدرانها وأعمدتها ورائحة أروقتها لم تتصل بذاكرة وتنفصل عن أخرى، ولم تقبع منذ القدم في قلب باريس من فراغ، إنها مَعْلَمة تردد اسمها على أسماعنا في الأدب كمسرحية فيكتور هوجو «أحدب نوتردام»، وحِصن أصيل معروف بتمسكه بجذوره الحضارية منذ القرن الثالث عشر الميلادي، رغم ما شهدته من ويلات وحروب وانتهاكات، وجار حسن يلقي على جيرانه العابرين على ضفتي نهر السين في وسط العاصمة، روحانية مهيبة، ومن الآن وصاعداً أنموذجاً يضرب فيه المثل لاستعادة مفاصل رصانة الوحدة الوطنية من جانب، ووسام أمل أول، جامعاً في ثناياه القيمة الحضارية إضافة لكونه تذكارَ وحدة إنسانية عالمية.