طوال قرنٍ من الزمان، هي سنوات عُمُر، الدكتور عبدالرحمن بدوي، شكّل الفيلسوف الكبير، حالة ثقافية فريدة، تذكرك بالمثقفين المتميزين الأوائل، المشهود لهم، بكثافة الإنتاج، مع جودة المضمون، ورقي العبارة، إضافة إلى جمال الأسلوب، مثل الجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، وأبي الحسن العامري، وابن رشد.
اختار بدوي، الحرب على كل الجبهات، وإنْ كان انتصر في معظم جولات حروبه المعرفية، إلا أنه لم يخرج سالماً، إذ أصابته الشظايا، فاعتقله الزعيم الليبي السابق، معمر القذافي، في 18 أبريل 1973، حين كان أستاذا بالجامعة الليبية، بتهمة: «نشر الزندقة»! فدافع عنه أنيس منصور بمقال، ما عجّل بتدخل الرئيس السادات، عند الليبيين، للإفراج عنه.
أما معاركه الفلسفية، فبقي أثرها عبر الأيام، وهو أنجز في سني عمره، ما لم تنجزه مؤسساتٍ بأكملها. قدم الفيلسوف بدوي، أكثر من مئتي كتاب، بين شرح، وتأصيل، وتدوين، وترجمة، وتحقيق، بل وضع الموسوعات المعرفية المحكمة، وليت ورثة المرحوم يعتنون بإرثه الفكري، عبر إعادة طباعة كتبه، وتوفيرها للباحثين في المكتبات.
كما نتمنى عن تلاميذه، حتى ممن لم يلتقوه، جمع أعماله التي تحمل وحدة موضوعية، مثل كتبه عن الفلاسفة، أرسطو، وشبنهور، وهيغل، وشلنج، وفيشته، وكانط، وليكن عنوانها مثلاً: «الشروحات الكاملة»، ليسهل الاحتفاظ بها، والاستفادة منها.
ويمكن اعتبار «الموسوعة الفلسفية»، التي جاءت في مجلدين كبيرين، من أهم ما قدّم عبدالرحمن بدوي، والتي أتبعها بـ«ملحق الموسوعة الفلسفية»، ليكون المجلد الثالث. ورغم اتهام البعض بدوي، بالإطناب، في ترجمة الفلاسفة الوجوديين، أو بتمجيد الفلسفة الألمانية، إلا أن الموسوعة أثبتت تميزها، لأن بدوي أرادها فريدةً من نوعها، فكان له ذلك. ومع أن الموسوعة، أخذت حقها من الانتشار، إلا أنها تستحق إعادة طبعها، بعناية أكبر، بما يليق بأهميتها، والقيمة العلمية لمصنفها، الفيلسوف الكبير.
يقول بدوي، في مقدمة الموسوعة: «هذه موسوعة للفلسفة، وهي تلبي حاجة ماسة يستشعرها القارئ العربي، ليس فقط المتخصص في الفلسفة، بل وكل مثقف بعامة: فهي تسعف الأول بما يحتاج إليه من معلوماتٍ موجزةٍ عن الفلاسفة والمعاني والمذاهب الفلسفية، وهي تزود الثاني بما يغنيه من معلوماتٍ عن هذا الفرع الأساسي من فروع المعرفة الإنسانية، الذي يهيئ له التكوين العقلي الحر ويوسع من أفق تفكيره، ويبث فيه الروح النقدية، ويمكنه من تكوين نظرةٍ في الحياة وفي الوجود، ويشغل ذهنه بمشاكل الإنسان والكون، وبالجملة: يسمو بالجانب الإنساني حقاً في الإنسان».
ويبقى ثمة سؤال: فبماذا تتميز موسوعة بدوي عن بقية الموسوعات؟!
يرى بدوي، أن طموحه في الموسوعة، أن تشتمل على أمرين، أولهما: أن يشمل الشرح كل ذي شأن بالفلسفة، على مدى تاريخها من مُنشئي مذاهب، ومؤرخين لها، ومسهمين في تطورها، والثاني: تناول أمهات الكتب الفلسفية، والمتون الأساسية بالشرح والتحليل، مع الاهتمام بحياة الفيلسوف. استفاد بدوي من الموسوعات الأوروبية والأميركية، التي ظهرت في القرن العشرين، سنة الأخيرة (وتاريخ كلامه عام 1981)، ومن السلاسل الفرنسية، والألمانية، والإيطالية المخصصة، لتراجم ومذاهب الفلاسفة، ومن معاجم المصطلحات الفلسفية الكبرى.
ومن تصفح الموسوعة يراها تبدد التهم الملحقة بها، مثل تركيزها على الفلسفات الوجودية، أو التحيز للفلاسفة الألمان، صحيح أن بدوي يعترف بشغفه الشديد بالفلسفات الألمانية، باعتبارها أم الفلسفة الحديثة، ولكنه لم يهمل الفلسفات الإنجليزية، والفرنسية، وبعض الفلاسفة المسلمين، فلم يكن هدف الموسوعة التحيّز، بل هدفها باختصار، أن تكون: «أداة عمل ممتازةٍ، للباحثين في الفلسفة، والراغبين في الإفادة من مناهجها، ومذاهبها، في السموّ بالفكر الإنساني الصحيح».
لم يدخر الفيلسوف العربي الراحل، عبدالرحمن بدوي وسعاً، في تقديم معارفه، وعلومه، لتتجسد في روائع نتاجه، الذي جعل الفكر الإنساني، قريباً منك، في صفحات كتبه ومؤلفاته.