عندما يتكلم معظمنا عن «المئوية» تكون الإشارة إلى الحرب العالمية الأولى ومعاهدة فرساي التي قننت نهايتها في 1919، وهذا منطقي كما أوضحنا في مقالاتنا السابقة. ورغم أهمية هذا الحدث، فالأهم هو الربط بينه وبين ما يحدث في منطقتنا. فمثلاً كان من أهم نتائج هذه الحرب الكبرى نهاية الإمبراطورية العثمانية وظهور مفهوم القومية العربية على أيدي بعض المفكرين الشوام في سوريا ولبنان. كان من نتائج هذه الحرب أيضاً ظهور مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون عن الحق في تقرير المصير والاستقلال، ثم طلب «وفد» مصري السفر للدعاية لتطبيق هذا المبدأ على مصر لنيل استقلالها عن بريطانيا، والقبض على أعضائه ونفي سعد زغلول باشا وزملائه، مما أشعل الثورة الشعبية في مصر في مارس 1919، لتتراجع بريطانيا وتطلق سراح المعتقلين، حيث تم تخليد اسم «الوفد» بإطلاقه على أكبر حزب سياسي مصري في الفترة الليبرالية وما بعدها وحتى الآن.
نتذكر أيضاً أن نهاية تلك الحرب ارتبط ببداية إيجاد منظمة دولية من أجل تسوية الصراعات ومنع تكرار حرب كبرى أخرى، مما أدى لظهور عصبة الأمم في جنيف، المنظمة الأم لهيئة الأمم المتحدة في نيويورك. ومما لا يعرفه الكثيرون، وبينهم بعض الإعلاميين والمتخصصين، أنه رغم اختفاء عصبة الأمم، فإن بعض وكالاتها المتخصصة استمرت لتكون جزءاً من الأمم المتحدة التي ورثت عصبة الأمم. وأعني بصفة خاصة: منظمة العمل الدولية، والتي لا تزال باقية في مقرها الأصلي بجنيف، كجزء من بناء المقر الأوروبي للأمم المتحدة. وذلك لأن منظمة العمل الدولية كانت رائدة منذ نشأتها، كما أن أهدافها وهيكلها لا يزالان مناسبين بعد مائة عام، بل نحن بأشد الحاجة إليهما في القرن الـ21 وما بعده.
وفي حين أن معظم المنظمات الدولية -كما تقول تسميتها- هي منظمات حكومية عالمية، كانت منظمة العمل الدولية منذ بدايتها ثلاثية التمثيل: تضم الحكومات، إلى جانب ممثلين عن رجال الأعمال وآخرين عن العمال، كأطراف على قدم المساواة. وذلك انطلاقاً من الاعتقاد بأن موضوعات مثل التشغيل والتحديات الاقتصادية عموماً لا يمكن إدارتها بطريقة فعالة بواسطة الحكومات فقط، وإنما تتطلب كذلك التشاور والشراكة بين هذه الأطراف الثلاثة. كان هذا التوجه رائداً بالطبع منذ مائة عام وتُثبت الأيام صحته على الدوام، كما يتضح من بعض البرامج الحالية للمنظمة. فمثلاً هناك أحد البرامج الهامة لمنظمة العمل الدولية، وفرعها في منطقتنا (منظمة العمل العربية) وغيرها من الفروع في العالم، هو التركيز على إشكالية تشغيل الشباب. والشباب في العالم العربي يمثلون نحو ثُلثي السكان، وهو معطىً يمثل نعمة ونقمة في نفس الوقت. نعمة لأنه دم جديد في شريان المجتمع وطاقة خلاقة تُحدد شكل المستقبل.. ونقمة إذا لم يمكن استغلاله وتوجيهه بطريقة إيجابية مفيدة، لتستغله جماعات إرهابية أو يقع في براثن المخدرات والجريمة المنظمة وغيرهما من الأمراض الاجتماعية.
تهتم منظمة العمل الدولية حديثاً بمشاكل الهجرة، وهي مشاكل ترتبط بالشباب والتشغيل وفي حاجة شديدة فعلاً للتنظيم والترشيد. وعلى عكس ما نعتقد، تحتاج الدول المتقدمة إلى الهجرة والأيدي العاملة، مثلما يود مواطنو بعض دول الجنوب الهجرة لإيجاد وسيلة قانونية للعيش الكريم.
وهكذا على مدى مائة عام تستمر منظمة العمل الدولية وتتطور رغم قلة الحديث عنها.