«التَعَلُّم دون تفكير جهدٌ ضائع، والتفكير دون علم محفوف بالمخاطر». قال ذلك الحكيم الصيني «كونفوشيوس» قبل أكثر من ألفي عام، وكأنه يتحدث عن فساد التعليم العالي العالمي الحالي، والذي لا يكاد يستثني بلداً في العالم، ويصيب حتى الهيئات التدريسية، وأنظمة قبول الطلبة. كشف ذلك تقرير عنوانه «نداء لمحاربة انتشار الفساد في التعليم العالي على الصعيد العالمي»، صدر هذا الشهر عن «مجلس اعتماد شهادات التعليم العالي» الذي يضم 3 آلاف كلية وجامعة معتمدة في الولايات المتحدة، و60 منظمة تعمل في «هيئات الاعتماد وضمان النوعية» عبر العالم. وأكدّ التقرير مسؤولية جميع أعضاء مجتمعات التعليم العالي في العالم، بمن فيهم هيئات اعتماد الشهادات، وقادة المنظمات والباحثين والأكاديميين والموظفين الإداريين والطلاب.. عن ضرورة لعب دور في دعم استقامة معايير التعليم العالي على الصعيد العالمي.
وتختلف أنماط تفشي الفساد من بلد لآخر، حسب التقرير الذي أعدّه ثلاثة أكاديميين من جامعة «كوفنتري» في بريطانيا، ودعمه «المعهد الدولي لتخطيط التعليم العالي» في «اليونيسكو». ودعا التقرير الهيئات المختصة باعتماد الشهادات إلى إعادة النظر في شروط المراجع والنوعيات، وبذل جهد أكبر في رصد الفساد وسوء التصرف. وبرغم أن لهذه الهيئات مجموعة عقوبات يمكنها استخدامها لإقناع المعاهد برصد أيّ علامات فساد، فإنه يُستبعدُ أن تكشف معظم الطرق المستخدمة في تقييم المعاهد عن أدلة على الفساد، حسب التقرير الذي راجع الأدبيات والوثائق ونّظم استجوابات عبر الإنترنت، وعقد محادثات ونقاشات مباشرة، وفحص 69 استشهاداً لهيئات الاعتماد. ويتمثل هدف التقرير في تقييم جدوى السياسات المتبعة للتأثير على مختلف أشكال الفساد، واقتراح إجراءات فعالة للتحذير المبكر من دلائل قد تكشف عن انتهاك معايير التعليم العالي والبحث العلمي.
وإذا فسد التعليم العالي العالمي فكيف نصلح العالم الذي يعتمد على التعليم العالي في مناهجه وطرقه التدريسية؟ لقد أقيمت في بعض دول العالم فروع جامعات عالمية، تبذل الجهاتُ المختصةُ جهوداً كبيرة في رصدها، ما يثير أحياناً ردود أفعال سياسية وحساسيات من الدول التي تتبعها الجامعات. وذكر التقرير أن كثيراً من البلدان الناطقة بالإنجليزية منخرطة في أعمال رصد الفساد، لكن لم يُعبّر سوى 64% من الذين استفتاهم التقرير عن قلقهم بصدد انتشار الفساد، وبعضهم واثق من أن الإجراءات المتخذة كفيلة بالسيطرة على الفساد. وتشمل الإجراءات التي يمكن القيام بها، الشفافية في جميع الجوانب، بما في ذلك تعيين موظفين جديرين وغير مُعرّضين لتعارض المصالح.
ولا يكاد التقرير يستثني بلداً من فساد إدارة معاهد التعليم العالي، بما في ذلك التدخل السياسي الذي قد يهدد استقلالية هذه المؤسسات، كما هي الحال في بلدان مثل أستراليا، والبرازيل، وهنغاريا، وبولندا، وروسيا، وتركيا، والولايات المتحدة. وتشمل أفعال الفساد انتهاك قرارات المعاهد، ومنع مواضيع معينة في مناهج الدراسة، وسجن الأكاديميين الرافضين للسياسات القائمة، وإلغاء موازنات بحوثهم. والفساد فنون، تتضمن حتى اختيار معاهد وجامعات أسماء مشابهة لأسماء جامعات مرموقة، وتزوير المؤهلات الجامعية، وانتحال الأبحاث الأكاديمية. وقد بادرت أخيراً بريطانيا، والسويد، والصين باتخاذ إجراءات لتعزيز أخلاقيات البحث، ومعالجة سوء أدائها، على صعيد عالمي، وترافق ذلك مع صدور «بيان سنغافورة حول جدارة البحث»، و«الدستور الأوروبي حول سلامة إجراءات البحوث». وبين الحلول المذكورة في التقرير علاج فساد قبول الطلبة الجدد في الجامعات، واعتماد نظام مقاصة لجميع طلبات القبول، كما تفعل بريطانيا وليتوانيا، أو عقد امتحانات عامة للقبول، والتي تطبقها روسيا والصين. وتنفعنا هنا نصيحة «كونفوشيوس» التالية: «علينا أن نشعر بالحزن، لكن دون أن نغرق بالغمِّ».


*مستشار في العلوم والتكنولوجيا