تأخذ العواصم كافة بكثير من الجدّية احتمالات المواجهة الأميركية - الإيرانية بعد قرار واشنطن «تصفير» صادرات النفط الإيراني بدءاً من مطلع مايو المقبل. ولا يشكّل هذا الموعد نوعاً من «الساعة صفر» لاشتباك ما، لكنه يدشّن مرحلة توتّر وترقّب، لأنه استُبق إيرانياً بتهديدات من كل المستويات السياسية والعسكرية بأنه سيكون ثمة ردّ على تشديد عقوبات لم يعد هدفها الضغط على نظام الملالي وحسب، بل قطع الموارد وخنق الاقتصاد، ثم أن القرار الأخير جاء بعد تصنيف «الحرس الثوري» منظمة إرهابية، ما اعتبره الرئيس حسن روحاني «إهانةً» لإيران. إذاً، فقد تراكمت الأسباب التي تستدعي تحركاً من طهران لتفكيكها والخلاص منها، لكن هذا التحرك في حدّ ذاته أصبح مشكلة أيضاً، فبمقدار ما يعتقد الإيرانيون أن لديهم خيارات للردّ بمقدار ما صاروا يجدونها خيارات محاصرة ومكلفة.
أعوام كثيرة من التدخّلات مرّت على إيران من دون أن تتطلّب منها حسابات دقيقة، إذ خاضت وتعتزم خوض كل حروبها «بالوكالة» أو ما يشبهها، وعندما تضطرّ كانت تُقحم «خبراء» أو ضباطاً متقاعدين. تدخلت في العراق بالعراقيين، وفي اليمن باليمنيين، وفي سوريا باللبنانيين ثم بميليشيات من السوريين قبل أن ترسل عراقيين وأفغاناً وباكستانيين ومقاتلين من جنسيات أخرى. فعلت ذلك وهي تحت عقوبات لم تمس قطاع النفط وواصلت مدّها بالموارد للإنفاق على تسلّحها وميليشياتها. لكن تغيّر الحال يضطرّها الآن لتغيير الأساليب فحيثما توفّرت الظروف وجرى تمكين الميليشيات تغلغلت هذه في مفاصل الدولة (العراق) لتتموّل محلياً وتفرض على الحكومة جيشاً موازياً للجيش الوطني، أو استولت على الدولة (اليمن) وأفلستها ثم راحت تنهب المساعدات الإنسانية وتعتدي على أملاك المواطنين وأرزاقهم، أما في سوريا ولبنان فدخل أتباع إيران منذ فترة مرحلة تقشّف لم يعرفوه سابقاً. ولكل من هذه الحالات تداعياتها محلياً وإيرانياً.
نتيجةً للتشديد الجديد للعقوبات فقدت طهران تلقائياً ثمانية أسواق كانت لا تزال منفتحة عليها. كل الدول التي منحت استثناءات مستاءة من إنهائها لكنها مضطرة لاستجابة القرار الأميركي. كوريا الجنوبية واليابان لا تزالان تأملان بشيء من التمديد، اليونان وإيطاليا والهند وتايوان ستمتثل للقرار، العراق قد ينال إعفاءً جزئياً لمهلة محدودة، أما الصين وتركيا فتماطلان من قبيل التمايز بحسٍّ «سيادي» أو «استقلالي» غير متوفّر لدى الدول الأخرى. غير أن الواقع هو الذي يفرض نفسه طالما أن واشنطن توعّدت بعقوبات للدول المخالفة، وسبق للاتحاد الأوروبي أن خبر هذا النوع من المواجهة بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي. فالدول كافة حرّة عموماً في مواصلة تجارتها مع إيران لكنها تجازف بحرمانها من السوق الأميركية، وما دامت اقتصادات هذه الدول قائمة على مصارف وشركات قطاعية كبرى، فإن هذه المؤسسات قد تمنع من الوصول إلى النظام المالي الأميركي.
لا يمكن لتركيا أن تذهب بعيداً في تمرّدها وهي المارّة حالياً بمنعطف خطير في العلاقة مع أميركا وحلف «الناتو» لتختار بين الحصول على طائرات «اف 35» والبقاء في المعسكر الغربي أو اقتناء صواريخ «اس 400» والذهاب إلى المعسكر الروسي. قد يختلف الأمر بالنسبة إلى الصين التي تخوض مفاوضات صعبة مع الولايات المتحدة لحل الخلافات التجارية والتوصّل إلى اتفاق جديد. سيكشف مآل كلٍّ من الحالَين حدود موازين القوى التي تتحكّم فعلياً بالنظام الدولي، وهو ما تدركه طهران مسبقاً في سياق تخطيطها لأي مواجهة مع الولايات المتحدة، ذاك أن الدول التي تتعامل معها لا تدعم سياساتها وتدخّلاتها وليست معنيّة بعقائديّة عدائها لأميركا ولا بكيفية إدارتها لهذا العداء، كما أنها غير مستعدّة للوقوف معها إذا تورّطت في مواجهة عسكرية مع أميركا، أو إذا أقدمت على إغلاق مضيق هرمز، ففي هذه الحال ستعتبر الدول الكبرى أن مغامرات النظام الإيراني تتخطّى الحدود التي تتقبّلها.
سيتطلّب «تصفير» صادرات النفط الإيراني بعض الوقت للتأكّد من مفاعيله في الأسواق الدولية ومن تأثيره في المداخيل الإيرانية. ورغم ما تظهره طهران من استعداد للصمود والممانعة، إلا أنها مجبرة الآن على بلورة خياراتها بدقة، وستكون حريصة على أن لا يمسّ أي خيار عسكري بأراضيها، وربما تميل إلى تصعيد في أكثر من مكان لتوظيفه في إخراج انتقالها إلى التفاوض. لكنها تأخّرت، فلا السياسات العدوانية تحقق لها مصالحها، ولا أي تفاوض يمكن أن يتم الآن بشروطها لتحافظ على النفوذ الذي تدّعيه.