بات نتنياهو بعد ما حدد إسرائيل «دولة قومية للشعب اليهودي» رائدَ هذه الموجة المتصاعدة في أوروبا وسواها. وبات في نظر هؤلاء المنارة التي يتبنونها، من شعبويين وقوميين، على غراره المجري فيكتور أوربان والإيطالي ماتيو سلفيني والبرازيلي جير بلوسونارو. كان نتنياهو السبّاق، ليس اليوم فقط بل منذ حملته الانتخابية الأولى «المظفرة» عام 1996 بدا في شعاراته القومية متطرفاً بلا لبسٍ ولا مواربة ولا مجاز لينحو منحاه بعدها كل هؤلاء أي كل اليمينين الشعبويين. افتتح بوابات الخراب وها هو اليوم متوج في ترشيحه لتأليف حكومته الخامسة، وهي أطول مدة يتسلم فيها رئيس وزراء إسرائيل الحكومة. يقول مؤلف سيرته انشل بفيفر «يريدون الاحتفاظ بالهوية الجماعية السائدة في بلادهم وإدامتها صافيةً نقيةً بعدما قلبوا المعادلات التي اعتمدها اليسار الإسرائيلي من خلال الأيديولوجيا الصهيونية التي كانت إلى حد ما منذ 1948 توازن بين القومية اليهودية والمبادئ الليبرالية الغربية. ولهذا كان يقول الأوروبيون والأميركيون أن إسرائيل «واحة الديمقراطية في الشرق»، حاملة قيمهم في محيط من الديكتاتوريات العربية. لكن مع نتنياهو واليمين المتطرف وبمنهجية مستدامة تراجعت هذه الظاهرة وتراجع معها اليسار الذي لم يعد له أكثر من 6% من الشعب اليهودي. انتهى حزب "العمل" والاتجاهات التعددية، وها هي توتاليتارية قومية شوفينية عنصرية تلغي دور الأقلية الفلسطينية. وهذا بالذات بات قاعدة الشعبويين الأوروبيين: دول تكون فيها الأقليات منبوذة ومهمشة ومضطهدة. وهذا يعني أن تلك الدول تنكرت للقيم الموروثة من التنوير التي من أسسها تمتع الفرد والجماعة بكل الحقوق التي يتمتع فيها الآخرون (إنها المساواة) بصرف النظر عن الجنسية التي ينتمون إليها أو اللون أو الدين. فالأولوية بكل ما تعني لا تحظى بها سوى الجماعات الدينية الإثنية الأكثرية التي يمثلونها. إنها ديكتاتورية الأكثرية. وهنا ضرب للمساواة والعدالة معاً.
لكن ماهو طريف في لعبة نتنياهو الجهنمية أنه أدلج هذه التوجهات العنصرية كما يقول الفيلسوف الإسرائيلي "يورام حازوني" في كتابه «فضيلة القومية» الذي يعقلن ويفلسف جنوح نتنياهو.
فبمَ يتحفنا كتابه الذي صدر عام 2018 أيضاً: يقول «إن الدولة القومية هي أفضل تجسيد تنظيمي سياسي» عال! وهنا المفاجأة أو التهافت (بل تهافت التهافت): فهذا الفيلسوف يرى أن الاتحاد الأوروبي يمثل كما الاتحاد السوفييتي في القرن العشرين نوعاً من الإمبريالية لقمع الشعوب. أي أنه تنظيم لا يعمل على توحيد أوروبا بل على استغلالها والتحكم بها وضرب إرادة شعوبها. شيء خرافي: يذكرنا بتلك الموجات الإيديولوجية التوتالوتارية في ثلاثينيات القرن الماضي التي قادت العالم إلى الحرب. شعبوية صارخة تصل إلى أقصاها عندما يشبه اتحاد الدول الديمقراطية بأوروبا والذي أسس نتيجة الحرب العالمية الثانية ونتائجها الكارثية ليسقط الجدار الحديدي وجدار برلين ويعمل على انفتاح الشعوب بحرية على بعضها.
وقد تفتقت عبقرية هذا الفيلسوف بإمعانه في المضي بمنطقه «الأسطوري». فحيث يعبر الاتحاد الأوروبي نفسه رداً على الفضائح التي ارتكبتها الأطراف القومية وخصوصاً النازية بحق اليهود أنفسهم، ها هو يرى«أن وحدها القومية اليهودية قادرة على حماية اليهود ومنع حصول فظائع جديدة بحقهم». لكن هذا الفيلسوف يقلب كل الموازين والمبادئ وكل اليقينيات وكل ما هو عقلاني عندما يقول: «إن النازية لم تكن حركة قومية وإنما إمبريالية». فبات الاتحاد الأوروبي معادلاً لها. فالنازية صاحبة فكرة تفوق العرق الآري التي تريد أن تحكم العالم به ألف عام ووضعت تراتبية معيارية للأعراق والأجناس وصنّفت العالم كله بين «آري» و«غير آري» تماماً كما تدعي إسرائيل اليوم تمثيل السامية. وقد أعلنت من خلال إيديوليجيتها القومية حرباً تسببت بقتل 50 مليون إنسانٍ على الأرض. مع هذا يرى هذا الفيلسوف أن هتلر لم يكن نازياً ولا آريا! إنه إمبريالي كأميركا أو فرنسا مثلاً. وربما قد يقول هذا الفيلسوف غداً إن هتلر لم يفتح المحارق لليهود، بل أوروبا من فعلت ذلك. فهذا التعامل مع الوقائع التاريخية ونفيها وتشويهها سبقه إليها «جوبلز» النازي عندما كان يقول: «اكذب اكذب تصبح الكذبة حقيقة». وما يقوله جوبلز ثم هذا الفيلسوف الإسرائيلي يجسد في الثلاثينات واليوم ما يسمى زمن ما بعد الحقيقة. أي زمن الشعبويين والمتطرفين وأصحاب الغرائز المؤدلجة.
إنه زمن الآخر. زمن الخارجين على الديموقراطيات والتنوير وزمن إسرائيل التي باتت مع نتنياهو وسواه منارة سوداء لكل الضالين والمجانين ورواد الكراهية.