إذا رجعنا إلى التاريخ، فإن تلك العملية التي جعلت من الدين علماً حصرياً قد تمّت من خلال صكوك أُصدرت في العصور الإسلامية التي تلت مرحلة الخلافة الراشدة، وبدء عصر دول العصبية القبليّة، التي تحكم تحت مُصوّغات الانتماء العرقي، ومركزيّة المكان وبُعد الزمان المخّتزل في شخص الخليفة، والحق الحصريّ لتزّكية من يرى فيه إماماً وحُجّة زمانه، والذي بدوره يحكم على أهميّة وقيمة عمل باقي العاملين في أحكام ومسائل الدين. ومن هنا، وجب معرفة البعد السياسي التاريخي لما هو بين أيدينا اليوم، والتأكيد على حقيقة مفادها أن فقهاء تلك الحقبة الزمنية لم يُسمح لهم بالتغريد خارج سرب منظومة الخلافة، وعلوم الدين كانت تنتشر، وفق ما يتمّ تعميمه من مركز الخلافة على أنه الأصحّ والأكثر نفعاً للأمة، من خلال مُصادقة ما كانوا يرونه «ظل الله على الأرض» خليفة المسلمين.
فهل الدين صناعة وحرفة، أم موهبة وحكمة يهبها الله لمن يشاء ويسخّر له الأسباب ليتبحّر في تفسير القرآن وتبسيط آياته واستنباط الأحكام منه للعامة أم هو علم تجريبي؟ فهل يصح أن نقول: إن الدين الإسلامي دين وسطاء بين الرب والعبد كما هو الحال اليوم، والتأملّات والتفسيرات والمراجع والنظريات، والقواعد التي يتّبعها القائمون على دراسة وفهم خبايا علوم الدين كفيلة بأن نربط مصير أمة بفهم شخص أو أشخاص، فهل كان هناك من هو أقدر من النبي الكريم والخلفاء الراشدين وكبار الصحابة من بعده على وضع أسس وتدوين ما نعتبره اليوم منظومة الدين؟ فهناك حقيقة يجمع عليها المسلمون مفادها أن الرسول الكريم لم يأمر هو ولا الخلفاء الراشدون من بعده أصحابه بتدوين تلك المجالات الحيوية في حياة المسلم، وهل نملك غير الافتراضات؟
فمن وضع حجر الأساس لثقافة فهم بلاغة اللغة العربية كأساس رئيسيّ لفهم الدين؟ وهل نقرّ حقاً ونعترّف كمسلمين بأن القرآن جاء للبشرية ككل، ليفهمه الكل بمختلف القدرات العقلية واللغوية، حيث نجد نسبة كبيرة بل الغالبية بين الأجيال المسلمة الناشئة لا تفهم اللغة العربية؟! دعّ عنك جانب الفصّاحة والبلاغة، والتي هجرها العرب الأقحاح لتتسع الفجوة بين الدين الشعبي والدين الرسمي وما أُنزل بوحي، ولذلك من الواجب الحفاظ على تراثنا الديني، ولكن ألا نقدس من نطلق عليهم عبر العصور علماء الدين ونجعل كتبهم سرمدية، فلهم التقدير والإجلال، وقد يكونوا أعلم الناس عبر التاريخ، ولكنهم بشر غير معصومين، وكذلك أعمالهم والقول بعصمة أعمالهم وعصمتهم مخالف لصريح نصوص القرآن الكريم.
فها هو شهر رمضان قادمٌ على الأبواب، وهو الشهر الذي من المفترّض أن يعكف فيه الإنسان على توثّيق علاقته مع خالقه، ولكن ما يحدث لدى البعض هو العكس تماماً! ففي هذا الشهر هناك من يشعر أنه أمام شاشة التلفاز ونزيلٌ دائم في أحد المسارح الغنائية، حتى تحوّل شهر رمضان، بالنسبة له، شهراً للتسلية والسمر والسهر وما لذّ وطاب من الطعام، ويأتيك من يقول بإن الإسلام بخير! بعد أن ربطنا الدين بالتديّن الشكلي والعبادات فقط في هذا الزمان، وكأن الدين مهمّة ووظيفة وليس سلوكاً يحترم الآخر وآدمية البشر، والتديّن هو مكارم الأخلاق ونقاء السريرة وطيب النوايا وبناء وعمل معرفي وإعمار للأرض، وتسامح يسمو بجوهر المخلوق إلى آفاق منفتحة، بكل رحابة صدر وقبول للآخر وإنسانيته.
فاليوم، ندعو إلى إسلام بلا حدود وعولمة الدين، وفي الوقت نفسه نرفض، ولو لثوانٍ معدودة، أن نضع بعين الاعتبار بأن مكمن الجدل قد يكون في دعوة الناس للرجوع إلى الإسلام الحقيقي، وكأن هناك أكثر من إسلام، ولكل قوم إسلام خاص بهم، بل الأدهى من ذلك أن هناك إسلاماً حضريّاً وإسلاماً بدويّاً، وإسلاماً عربياً وإسلاماً أعجمياً، وإسلاماً ما بين هذا وذاك! والادعّاء بأن الإسلام الحقيقي أصبح له أكثر من نسخة أصلية، ومرشد أعلى وشيخ أكبر وحالة ضياع روحي تنتشر بين نسبة كبيرة من أكثر من مليار مسلم، وتصنيفات يقف أمامها المسلم العادي الممارس للدين حائراً ويحلم بدين يجمع ولا يفرّق، وعلماء دين هم قادة لبناء الحضارة والتقدّم المعرفيّ والتقنيّ، ومنهج دعّوي يخاطب العقول بقدر ما يخاطب القلوب، وإدراك أن أفكار وأطروحات العقل قد تسافر عبر الزمن، ولكن الزمن لا يتوقف عليها لفهم أشمل وأصحّ للدين! والسؤال هو: إذا استمر الوضع على ما هو عليه اليوم، هل سنجد أنفسنا وحدنا أسياد الأرض، بعد أن ينتقل كل البشر للعيش على كوكب آخر؟