لا تحتاج التنظيمات الدِّينية إلى متبرعين لتبرير أفعالها، لأنها تعتبرها دفاعاً عن المقدسات، جهاد في سبيل الله، وطلب الجنة، بجمع البارود مع عبارة «الله أكبر»، مثل قتل ما يقرب من أربعمائة.
لا يحتاج القتلة إلى تبرير، سوى كان لسفك دماء جماعات مثل حادثة كنائس سريلانكا، أو فردٍ مثل الرَّصاصات التي صوب إلى صدر علاء مشذوب(2019)، أو فَرج فودة(1992)، أو حسين مروة(1987).بُررت مجزرة الكنائس بمجزرة مساجد نيوزيلاند، وبُرر قتل الروائي مشذوب بالإساءة إلى المقدسات، وقد يُقال: كيف تساوي دماء أربعمائة بدم واحد؟! أقول العبرة بالفكر والجرأة على الدماء لسبب ديني، وبهذا المبرر اغتيل مئات العراقيين مِن أهل الفكر والثقافة، وما الحملات «الطهورية» الدموية التي اجتاحت بغداد إلا مِن جنس تلك الثَّقافة.
أُعدَّ لتفجيرات كنائس سَرَنْدِيب(سريلانكا) قبل مذبحة المساجد بنيوزيلاند، فلم تأت الجريمة ثأراً لجريمة، وإذا لا يريدون تصديق تصريحات السلطة السريلانكية، فمثل هذه العملية الخطيرة بحاجة إلى وقت طويل، وحركة لوجستية متقنة، تعتمد على وسطاء ومخرجين.
هل كانت (11 سبتمبر 2001) ردة فعل؟! وغزو أفغانستان وغزو العراق قد جاءا عقبها، وأن الإسلاموفوبيا قد تفاقمت بانتقال «القاعدة» إلى الإرهاب الشَّامل، مثلما لو أن نظام ولاية الفقيه لم يعلن مبدأ تصدير الثورة الدِّينية، بتأسيس مكتب «حركات التحرير»، لرحب العالم بالنظام الجديد، وهذا الرَّأي لأحد أركان ولاية الفقيه ومقترح نظامها، آية الله حسين منتظري(ت2009)، قبل حجره في داره.
لا تحتاج الجماعات الإسلامية السِّياسية إلى مبررات للقتل، لأنها نشأت على أساس العنف المقدس، فالاعتراض على عقائدها يعني الاعتراض على وكلاء الله ونيابة الإمام.
لم يكن المعترضون من حملة السِّلاح ولا انقلابيين، ومع ذلك مراجع دين كبار حولهم زملاؤهم إلى «فساق»، و«خونة»، ومنهم مَن قُتل، ولم ينبس إسلامي بكلمة، فالقتل داخل المذهب حلال! عند الإسلام السياسي، والثوريين العقائديين كافة، بين أن تكون مؤمناً أو كافراً، وطنياً أوخائناً، بردة طرفٍ.
صارت مجزرة المساجد، التي مَن لم يشجبها تراه مريض الضمير والعقل، مبرراً لدى الزعامات الإسلامية في التحريض، ومادة للكسب، وعذراً لإشهار العنف، لكن ما أن تبين أن مرتكبي مجزرة الكنائس من رفاقهم وتلامذتهم صمتوا صمت القبور، فعللوا ما حدث بردة فعل! مع أن التضامن الأوروبي غير المسلم، مع ضحايا المساجد، كان منقطع النَّظير، والمتضامنون في عُرف الجماعات الإسلامية «كفار»، كفر أصلي أو كفر نعمة، حسب اختلاف فقه الإسلاميين.
ما حصل بسَرَنْدِيب فاجعة عظمى، ودماء الضحايا تتحمله الأنظمة التي تواصل دعم هذه الجماعات، فالمعركة مازالت مفتوحة مع قوى التَّطرف والعنف المتمثلة بالتنظيمات الدينية المسلحة، ودعم سيطرة الميليشيات كي تحل محل الجيوش النِّظامية، والأمثلة بالمنطقة معروفة.
فدول عديدة لا تبدو تدافع عن حدودها عندما تعلن مساندة الجماعات المتطرفة والميليشيات، عبر الجبال والبحار، نصرة لـ«الإخوان»، أو دفاعاً عن الأضرحة في كل مكان! أنظمة صارت ممراً للجماعات، ومقرات انتقال، على الرّغم مِن اختلاف المذهب والتظاهر بالعِداء، هذا ما ورد في اعترافات ومراجعات أفراد من «القاعدة» و«داعش»، وما أماطت عنه اللثام الوثائق التي عُثر عليها في المنزل الذي قُتل فيه أُسامة بن لادن(2011).عرف المسلمون جزيرة سريلانكا بـ«سَرَنْدِيب»، واسمها سيلان أيضاً، ويكاد لا يخلو كتاب تاريخ من هذا الاسم، مِن الكتب البلدانية إلى التاريخ والأدب، مثل «ألف ليلة وليلة»، وكتب الجاحظ(ت255هـ)، والأخير يذكرها بالقول: «إن السَّاحر لا يكون ماهراً حتَّى يأتي بالفلْفُل الرّطب من سَرَنْدِيب»(كتاب الحيوان).
كانت مصدراً للماس والبخور والفلْفُل والعطر والمسك، وأن أثر قدم آدم أبي البشر مغموس في حجر جبلها(خرداذبه، الممالك والمسالك). ربّما أتى الاسم العربي لها مِن التسمية الهندية القديمة «سنكاديب»(القلقشندي، صبح الأعشى)، وديب «جزيرة» و«سرن» معناها لا أدري (عن ابن دريد).وجاء شعراً: «كما قد يعلم الله عازماً/أروم بنفسي من سَرَنْدِيب مقصدا»(الحموي، معجم البلدان).عُرفت سَرَنْدِيب لدى الصابئة المندائيين، على أنهم حُملوا في سفينة منها إلى العراق(دراوور، الصابئة المندائيون)، قادها سام بن نوح، فسَرَنْدِيب كانت مكان هبوط آدم من الجنة، وأن كتابهم «الكنزاربا»، حسب تقليدهم، نزل على آدم(سدرة آدم)، أي كتاب آدم. كانت الجزيرة مكاناً لنفي الشَّاعر ووزير الحرب المصري محمود سامي البارودي(ت1904) بعد ثورة «أعرابي»(1882)، وهناك نظم قصيدته «مِن وحي سَرَنْدِيب».

التنظيمات التي تتخذ مِن الدِّين راية جميعاً غير مبرئين مِن مجزرة سَرَنْدِيب، وغيرها من أفعال العنف الديني، تلك التي طالت المئات من الرجال والنساء والأطفال، فالانتحاري تكوّنَ من تعاليمهم، وركزت في ذهنه فكرة «الحاكمية»، أي نيابة الله، ثم أخذوا يتحدثون عن «ردة فعل» لما حدث لمساجد نيوزيلاند، فمِن أي حدود دخل الزَّرقاوي(قُتل 2006)، وعبر أي حدود نشطَ البغدادي؟ ومَنْ سهّل احتلال الموصل، وفتح سجون العراق لإطلاق كائنات الشّر؟! إنها شبكة إسلامية متداخلة، تُمحى الفوارق المذهبية بين بعضهم بعضاً، لا يستقيم أمر تنظيم منها بلا إشهار «العنف المقدس»، ليست مجزرة سَرَنْدِيبَ ردةَ فعلٍ، إنما فعل أصيل للإسلام السِّياسي كافة.
*كاتب عراقي