رغم صحة ما يمكن أن يقال عن الأزمة السياسية والأمنية في السودان، فإن مبتدأ الإصلاح يكمن في الاقتصاد وتحسين حياة السودانيين. فهذا البلد الغني بأراضيه الشاسعة والمياه الوفيرة والنفط والمعادن والموارد والفرص الكبيرة يعاني من أزمة اقتصادية وتنموية كبرى تجعل كل مبادرات التفاوض والتهدئة السياسية حلولاً مؤقتة، لكن مشكلة الإصلاح الاقتصادي والتنموي أنه يحتاج إلى وقت طويل في حين يحتاج السياسيون إلى حلول فورية! وتحت ضغط وإغواء الحلول السياسية المؤقتة ظل السودان أكثر من ستين سنة في أزمة متواصلة، ولم يُتح لهذا البلد الكبير وأهله الطيبين المسالمين توظيف الفرص الواعدة في الاستقرار والازدهار.
يعاني الاقتصاد السوداني تراجعاً كبيراً، ولا يزيد فيه معدل دخل الفرد على 2400 دولار، وحقق منزلة متدنية في سلم التنمية الإنسانية حسب مؤشرات تقرير الأمم المتحدة للتنمية، إذ جاء في المرتبة 167 بين دول العالم وبقيمة: 0.502 وهي تعتبر قيمة منخفضة، حيث يقدر تقرير الأمم المتحدة قيمة التنمية وفق مجموعة كبيرة من المؤشرات الاقتصادية والتنموية تقع في أربع مجموعات رئيسة هي مستوى الدخل، والتعليم والصحة والتكامل الاجتماعي، وتحول هذه المعادلة إلى قيمة رقمية تتراوح بين صفر وواحد، وتعتبر حسب التقرير الدول التي تحصل على قيمة 0.8 فما فوق ذات تنمية مرتفعة جداً، والدول التي تحصل على قيمة 0.7 فأكثر ذات تنمية مرتفعة، والدول التي تحصل على 0.55 فأكثر متوسطة، والدول التي تقل عن ذلك منخفضة التنمية، ويعكس الحالة الصحية تقدير العمر المتوقع، وهو في السودان: 64 سنة، في حين أنه في الدول المتقدمة يبلغ 80 سنة، وفي الدول المتوسطة يقترب من 70 سنة، ويحظى المواطن السوداني بمعدل 7 سنوات للتعلم، وهذا أقل من معدل الدول المنخفضة والذي يزيد على 9 سنوات في حين أنه في الدول المتوسطة يبلغ 12 سنة، ويصل إلى 16 سنة في الدول مرتفعة التنمية، وكذلك فإن معدل دخل الفرد أقل من معدله حتى في الدول المنخفضة التنمية.
وفي ذلك فإن الحلول السياسية لا يعول عليها إلا بقدر ما تمنح السودانيين الأمن والاستقرار، وتضع مسار الأمة نحو التنمية الحقيقية والفعلية، والتي لم تعد معجزة ولا لغزاً خفياً ولا معرفة متخصصة، لكنها اليوم ثقافة عامة متاحة لكل إنسان على نحو عملي يمكن قياسه وتقويمه، ففي مقدور كل إنسان أن يطلع بالتفصيل على مؤشرات التنمية في كل بلد ويقارنها بالبلدان الأخرى، وبالسنوات الأخرى، فيعرف أين يقع كل بلد في التنمية وإلى أين يسير.
لقد أسرفت الدول والمجتمعات العربية في الحلول والجدالات السياسية دون ربطها بتحسين حياة المواطنين، وكأن الاتجاهات الدينية أو القومية أو الديمقراطية والانتخابات هواية جميلة، أو طقوس وشعائر لا علاقة لها بإدارة الموارد بعدالة وكفاءة، أو تعفى من المسؤولية الاقتصادية، بل وتستخدم لتبرير الفشل، هكذا لم تحقق الدول والمجتمعات أهدافها السياسية والقومية والدينية كما لم تحقق أهدافها الاقتصادية والتنموية.
خضع السودان منذ ثلاثين عاماً لهيمنة «الإسلام السياسي العسكري» وها هو ينتهي اليوم إلى بلد مثخن بالصراعات والانقسامات والفقر والمرض والجهل، ولم يكن يحتاج سوى إدارة موارده المتاحة بعدالة وكفاءة، وهي بالمناسبة موارد هائلة كفيلة أن تجعل السودان من البلدان المزدهرة والمتقدمة.
وقد أعلنت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة عن مساعدات مالية للسودان بقيمة ثلاثة مليارات دولار، يؤمل أن تساعده في التقاط أنفاسه، وتصحيح السياسات الأمنية والاقتصادية، وهذا أيضا ما يجب أن تفعله جميع الدول المقتدرة، وهو مساعدة السودان على التقدم الاقتصادي والاستقرار، فلا معنى ولا جدوى لكل ما تفعله الدول إذا لم يخدم السلام والتقدم.
تركز المطالب الشعبية على الحريات ومواجهة الفساد، ويبدي المجلس العسكري بقيادة عبد الفتاح البرهان تفهماً لهذه المطالب، لكن القيادات والاتجاهات الاجتماعية والسياسية في السودان تحتاج إلى بناء إجماع وطني وبرامج ومبادرات تنموية أكثر من انتصارات ومكاسب سياسية جماهيرية أو حزبية، فقد كان الدرس الأول للأحداث السياسية التي اجتاحت العالم العربي منذ أواخر عام 2010 هي الحفاظ على الدول وبناء تفاهمات حقيقية وحسنة النية باتجاه الأهداف الكبرى والأساسية، والمتفق على أنها تحتاج إلى سنوات طويلة، وليست حلولاً فورية، وهي لسوء الحظ لا تمتلك تأييداً اجتماعياً وحزبياً عميقاً.
إذا أردنا أن نبني مواجهة صادقة مع الذات فيجب أن نعترف أننا في بعض البلاد العربية، لم نشكل بعد وعياً عميقاً وصادقاً بالمخاطر الحقيقية، ولم ندرك مستوى الخطر الذي يحيط بنا أو يواجهنا في الحد الذي يدفعنا لتغيير سلوكنا واتجاهاتنا وأولوياتنا.
*كاتب وباحث أردني