من حق «يسار الوسط» الإسباني أن يحتفل بانتصاره رغم الطريق الوعر الذي ينتظره في سبيل تشكيل ائتلاف حاكم. فقد كان أكبر الفائزين في الانتخابات العامة المبكرة التي أجريت يوم الأحد الماضي التي حصد فيها نحو 30% من الأصوات و123 مقعداً متوقعاً في برلمان إسبانيا المؤلف من 350 مقعداً، وذلك صعوداً من 85 مقعداً كانوا يسيطرون عليها من قبل في حكومة أقلية. وفي الجانب الآخر، عانى أكبر خصومهم وهو الحزب «الشعبي» من «يمين الوسط» أسوأ نتيجة انتخابية في تاريخه الذي حصد 66 مقعداً فقط أي أكثر قليلاً من نصف إجمالي المقاعد التي فاز بها منافسوه الاشتراكيون. وخسر الحزب الشعبي الدعم لصالح الأحزاب الأخرى بعد أن ظل في السلطة حتى أسفطته فضيحة فساد وتصويت على عدم الثقة عام 2018. وذهب بعض الدعم إلى حزب «بوكس» اليميني المتطرف الذي يدخل البرلمان الإسباني لأول مرة مستحوذاً على 24 مقعداً.
وظهور «بوكس» قبيل الانتخابات واحتمال انضمامه إلى ائتلاف حاكم إلى جانب يمين الوسط يحفز فيما يبدو الدعم للزعيم الاشتراكي ورئيس الوزراء الحالي «بيدرو سانتشيز»، الذي وعد بالتصدي للسياسات القومية المتطرفة في البلاد التي مازالت تعيش ذكريات وصدمات عقود من الاستبداد الفاشي. وأعلن سانتشيز أمام أنصاره يوم الأحد الماضي في مقر حزب «العمال الاشتراكي» في مدريد قائلاً «المستقبل فاز والماضي خسر. أرسلنا للعالم رسالة مفادها أننا نستطيع هزيمة الرجعيين والسلطويين».
وانتصار الاشتراكيين في إسبانيا ينقل رسالة بالفعل. فعلى مدار العامين الماضيين، اعتدنا الحديث عن تراجع أحزاب يسار الوسط في الغرب. وفي أوروبا بوجه خاص، واجه «الديمقراطيون الاشتراكيون» الذين مثلوا ذات يوم عنصراً دائماً تقليدياً في الحياة السياسية في بلدانهم انتكاسات شديدة إنْ لم تكن مميتة. فمن فرنسا إلى هولندا ومن ألمانيا وإلى إيطاليا، أصبحت أحزب «يسار الوسط» أثراً بعد عين مقارنة بما كانت عليه ذات يوم. فقد التهمت طائفة من الأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة المناهضة للهجرة بعضاً من دعم الطبقة العاملة التي كانت تشكل حجر الأساس للقوة السياسية للأحزاب الديمقراطية الاشتراكية.
لكن سانتشيز واشتراكيوه استطاعوا الدفاع عن قائمة أولويات اشتراكية تضمنت زيادة بنسبة 22% للحد الأدنى للأجور في إسبانيا، وقد تجذب من جديد على الأرجح الناخبين الذين دعموا في الماضي أحزاباً أكثر يسارية. وكتب خوسيه ايناسيو توربلانكا رئيس مكتب مدريد لمركز «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» البحثي يقول «مقارنة مع باقي أوروبا، أصبحت إسبانيا حالياً معقلاً للديمقراطية الاشتراكية ومدافعاً عن السياسات التقدمية والمؤيدة للاتحاد الأوروبي».
وأسبانيا لن تكون وحدها في هذا المضمار، فقد أشارت مجلة فاينانشيال تايمز إلى أن «الاشتراكيين الأوروبيين سينظرون إلى أسبانيا على أنها دليل على تعافي الديمقراطية الاشتراكية بعد أزمة وجودية في سنوات التقشف». والانتخابات المحلية البريطانية في وقت لاحق قد تضيف زخماً سياسياً لحزب «العمال» وحزب «الديمقراطيين الأحرار».
وأشار محللون إلى أن قوة محتملة صاعدة من الأحزاب في أوروبا مازالت مؤيدة بشدة لبروكسل وسياسات أكثر احتواء عبر القارة. ويرى بابلو سايمون أستاذ العلوم السياسية في جامعة كارلوس الثالث في مدريد أن «الجيد في الأمر أنه بالنظر إلى الاتحاد الأوروبي- وخاصة في غمرة أحداث بريكسيت- هو أن إسبانيا الآن لديها زعيم اشتراكي يتمتع بنفوذ يمكنه أن يساعد في جذب محور واضح عبر القارة-يمتد من لشبونة إلى مدريد ومن باريس إلى برلين- لحكومات ملتزمة بمزيد من التكامل الأوروبي». لكنه يرى أيضا أن ما حدث في أسبانيا قد لا تتم ترجمته بسهولة في مناطق أخرى. ويؤكد سايمون أن «الانتخابات أظهرت استثنائية شبه جزيرة أيبريا حيث يستطيع الاشتراكيون حشد الناخبين بفاعلية أكبر من بلدان أخرى».
ونتائج انتخابات إسبانيا تعكس أيضاً بشكل أكبر هشاشة «يمين الوسط» وأيضا تماسك يسار الوسط. ورددت الهزائم التي مني بها حزب يمين الوسط أصداء ما لحق بحزب الجمهوريين في فرنسا وحزب «فورزا إيطاليا» (إلى الأمام إيطاليا) وهي أحزاب تلعب دورا ثانونيا الآن بعد أحزاب اليمين المتطرف في بلدانهم.
ويرى كاس ماد الخبير في السياسة الأوروبية في جامعة جورجيا أن فوز الاشتراكيين يبين أن «الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية بوسعها أن تكون ناجحة كأحزاب ديمقراطية اشتراكية صريحة في السلطة» دون الحاجة إلى اتباع السياسات المناهضة للهجرة أو مجاراة الأحزاب في الميل يمينا أكثر. ويرى ماد أيضا أن من المهم أن يركز سانتشيث في خطابه على القضايا الاجتماعية الاقتصادية ومنها عدم المساواة وليس مجرد ترديد كلام سياسة الهوية المنتعش في مناطق أخرى من الغرب.
وهذا قد يصبح أصعب في الوقت الذي يحاول فيه هو الحزب الاشتراكي رسم طريق نحو تكوين ائتلاف حاكم مستقر في الخريطة السياسية المفتتة في أسبانيا. والائتلاف حالياً مع حزب المواطنين وهو أكثر الشركاء ترجيحاً من اليمين تم استبعاده بعد إعلان الحزب أنه سيقود المعارضة ضد الحزب الاشتراكي. والاشتراكيون إلى جانب الأحزاب الأخرى في اليسار ربما يضطرون إلى التحالف مع حزب قطالوني إقليمي يؤيد الانفصال عن مدريد وهي قضية ساعدت في تحفيز صعود غضب القوميين في حزب بوكس.
إيشان ثارور
كاتب متخصص في الشؤون الخارجية ومحرر ومراسل سابق لمجلة «تايم»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»