حين كنت بصدد جمع مادة علمية لكتابي «الخيال السياسي» الذي رأى النور نهاية عام 2017، لفت انتباهي أن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية قد أصدر عدداً وافراً من الكتب حول دراسة مستقبل القيم والظواهر والقضايا والأحوال وتوقعها واستشراف ما سيجري لها، والتفكير فيه، بعض هذه الكتب مترجم عن اللغة الإنجليزية، وبعضه هو حصيلة ندوات ومؤتمرات عقدها المركز منذ وقت مبكر، وشارك فيها عدد من الباحثين المختصين بالدراسات المستقبلية من مختلف أنحاء العالم. لهذا حين يرفع المركز، الذي أكمل منذ أربعين يوماً تقريباً عامه الخامس والعشرين، شعار «استشراف المستقبل» فإنه يرسخ المسار الذي انحاز إليه منذ وقت مبكر، لاسيما أن التصورات التي تقدمت في رحابه عن المستقبل شملت أشياء عديدة مثل مستقبل التعليم والصحة والحياة الاجتماعية بمختلف صورها، والتطور التقني، والنظم السياسية والعلاقات الدولية... إلخ.
فمع مطلع القرن الحادي والعشرين، وجّه المركز دعوة لنخبة متميزة من المفكرين والباحثين ذوي المكانة العلمية الرفيعة، كل في مجال تخصصه، بغية استقراء بعض ملامح المستقبل، وتقديم رؤية عميقة ومدروسة تسهم في إجلاء غموض ما سيأتي، وتحديد معالمه بصورة دقيقة. وفي ركاب هذا قدم المؤرخ المعروف بول كندي إجابة عن سؤال محوري عن التحديات التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين، وعرض المفكر ألفن توفلر صورة ناصعة لموجات التغيير التي لحقت بمختلف الثقافات وتأثيرها على الفرد والأسرة والمجتمع، ودرس جيرمي ريفكن الآثار التي تخلفها هندسة الجينات على البشر، وشرح زيبجنيو بريجنسكي محددات النظام الدولي في القرن الحالي، وبين كينيشي أوماي ما يتصوره عن طبيعة الدولة في القرن نفسه، وقدم إيرل تيلفورد ما يتوقعه عن شكل الحروب في المستقبل، وقدم آخرون تصوراتهم عن نظم الصحة والتعليم والإعلام والاتصال والمعلومات، والصيغة التي ستأخذها المنافسة الاقتصادية وحركة الأسواق، وقد ظهرت أعمال هذا المؤتمر في كتاب «هكذا يصنع المستقبل»، وبعدها ترجم المركز كتاب إدي فاينر وأرنولد براون، «التفكير المستقبلي: كيف تفكر بوضوح في زمن التغير»، ثم كتاب جاك جولدستون وإريك كوفمان ومونيكا دافي توفت، «الديمغرافيا السياسية: كيف تعيد التغيرات السكانية تشكيل الأمن الدولي والسياسة الوطنية؟» والذي يعد دراسة عميقة حول الآثار التي ستتركها التركيبة السكانية في المستقبل على الأوضاع السياسية المحلية والإقليمية والدولية. وجاء الدور على النظر إلى حروب المستقبل، وفيها أصدر المركز عدة كتب لعل أهمها هو كتاب ريتشارد كلارك وروبرت نيك، «حرب الفضاء الإلكتروني: التهديد التالي للأمن القومي وكيفية التعامل معه»، وكتاب «الحرب عن بعد: دور التكنولوجيا في الحرب» الذي شارك في تأليفه عدد من الخبراء.
ومع يوبيله الفضي عقد المركز مؤتمره السنوي الرابع والعشرين تحت عنوان «تحديات وفرص التغيير في القرن الحادي والعشرين» كي يبحث المجابهات والخيارات المتاحة حاليا، والتي سيمتد تأثيرها إلى المستقبل، مثل المسائل المتعلقة بالتكنولوجيا والتطورات في الطاقة الأحفورية والمتجددة، والتغير في طبيعة الحروب، والرؤى الجديدة في الأمن الداخلي، وذلك بعد أن خصص المركز مؤتمره السنوي السابق عليه لقضية الدراسات المستقبلية، بمختلف جوانبها ومجالاتها وتجلياتها.
إن هذا الاهتمام والانشغال والمخزون المعرفي الذي أنجزه المركز، يضعه في صدارة المؤسسات الإماراتية التي بوسعها أن تنظر في قضية «اللامستحيل»، والتي لا يمكن فهمها بالطبع بعيدا عن استشراف المستقبل، ليس من خلال التفكير بالتمني، أو رفع اللافتات التي تفتح الشهية إلى ثورة تطلعات إيجابية، إنما عبر توظيف المعرفة والتفكير العلمي والتخطيط في سبيل تحويل الصعب إلى هين، والمستحيل إلى ممكن.
ويدفعني هذا كله إلى القول بأن المركز يجب أن يكون حاضرا بقوة في مهمة إعداد مؤسسات دولة الإمارات العربية المتحدة لمستقبل سيقل فيه الاعتماد على النفط، عبر تمكين المركز من تقديم دورات دراسية وتدريبية للجيل الجديد من المسؤولين في مختلف الهيئات والمصالح الحكومية وقوى المجتمع الفاعلة، تسهم في إطلاق خيالهم العلمي المنطقي، وتملأ نفوسهم بالرغبة في النجاح الفائق، وتدفعهم إلى الإبداع والابتكار.