ليس القصد من الاجتهاد ما هو معروف في علم أصول الفقه في صورة قياس شرعي منطقي، أي «تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة»، بل المقصود منه تجديد الخطاب الإسلامي. هو إذن اجتهاد ذهني أكثر منه اجتهاداً واقعياً لإصدار حكم في واقعة جديدة. هو اجتهاد مقرون بعملية النهضة عن طريق ربط الاجتهاد بالقضايا المستحدثة على الساحتين الداخلية والخارجية، الإقليمية والعالمية، في مواجهة تحديات حضارية جديدة. وهو اجتهاد في ظل ازدهار العلوم الإنسانية وليس مجرد قياس منطقي. هو اجتهاد يأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتجددة من القدماء إلى المحدثين. إن «الاجتهاد الفقهي والتجديد الحضاري صنوان». الاجتهاد والتجديد والعمران، ثلاثة مفاهيم يؤدي بعضها إلى البعض الآخر لإحياء ما اندثر، وإيصال ما انقطع، وبداية يبدأ المجددون والمصلحون منها. يتسع مفهوم الاجتهاد بحيث يشمل التجديد في العلوم الإسلامية القديمة، بل وفي الموقف من الآخر، والموقف من الواقع الحالي بكل مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
والاجتهاد، على ما هو معروف، هو المصدر الرابع للتشريع، بعد الكتاب والسنة والإجماع. وله أسماء عديدة: الاجتهاد وهو أعم الألفاظ، والقياس، ودليل العقل، والاستصحاب، والاستحسان، والمصالح المرسلة.. وكلها ألفاظ خاصة وأشكال حرة من الاستدلال.
وكما هو معروف، يقوم الاجتهاد على أربعة أركان: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم. الأصل هو المعروف حكمه، والفرع هو المجهول حكمه، والعلة هي الرابط المشترك بين الأصل والفرع، والحكم هو حكم الأصل الذي يتعدى إلى الفرع. لذلك فتعريف القياس عند القدماء هو أنه «تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة».
والنص نفسه تجربة مستجدة، تجربة نموذجية أولى، تتلوها تجارب متجددة أخرى.. هو صياغة لتجربة تتلوها تجارب أخرى بحاجة إلى صياغة. كان النص في الأصل تجربة في المكان (في «أسباب النزول»)، وفي الزمان (في «الناسخ والمنسوخ»). كان إجابة على سؤال: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ»، «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ»، «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ»، «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ».. والجواب كان يدركه عمر ببداهته. لذلك سماه الرسول محدّث الأمة، لأن في كل أمة محدّثا. يأتي الوحي متفقاً معه ومصدِّقاً لقوله وحكمه. فدين الوحي موافق لدين الطبيعة.. وهذا التوافق يتجاوز الحكم إلى الصياغة ذاتها. فقد صاح أحد كتاب الوحي بعد ما سمع وصف الوحي لتطور الجنين في رحم الأم: «تبارك الله أحسن الخالقين»، فقال له الرسول: «اكتب، هكذا نزلت».
وفهمنا للوحي يتطور بتطور الزمان وتجاربنا فيه: «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا»، من الأثقل إلى الأخف، مثل الحساب، «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ»، فلما ضج المسلمون من ذلك الوعيد، نزلت آية أخرى للتخفيف: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا». ولما كان في أول الصيام عدم جواز معاشرة النساء، واختان بعض المسلمين أنفسهم، نزلت الآية «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ». وهكذا أصبح من مبادئ الشريعة عدم جواز تكليف ما لا يُطاق.
لذلك فالاجتهاد كائن داخل النص منذ نشأته، وليس فقط في تفسيره وتأويله. يتطور حكمه بتطور الزمان وتغير المكان. هكذا فعل الشافعي بتغيير أحكامه من العراق إلى مصر.
والاجتهاد ليس مجرد آلية منطقية لاستنباط الأحكام؛ قضية كبرى (وهي الأصل،) وقضية صغرى (وهي الفرع)، وحد أوسط (وهو العلة)، ونتيجة (وهي الحكم).. بل هو تجديد للخطاب الديني، وتحول من النص المنزّل إلى النص المستنبط، من الوحي إلى العقل، من التنزيل إلى التأويل. وبهذا المعنى فالخطاب الإنساني هو امتداد للخطاب الإلهي، والخطاب الجديد امتداد للخطاب القديم.. في تواصل وليس في انقطاع.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة