تمثل القيم مجموعة المعتقدات والقناعات التي تحكم العلاقة ما بين الإنسان وكل ما يحيط به من موجودات في الكون، تتحول تلك القناعات إلى سلوكيات فاعلة هدفها تحقيق الخير والسعادة للإنسان وما يحيط به. تنمو القيم في وجدان الإنسان مع الزمن وتتراكم وتظل حية فيه لا تخرج من ضميره الإنساني. عندما نتحدث عن القيم يتبادر إلى الأذهان مجموعة من الثوابت التي ترسم سلماً ومعايير لتقييم الأعمال والأقوال والحكم عليها. لكن لو تعمقنا أكثر سيتبين لنا أن سلم القيم يتغير تماماً كما هي الحال مع القيم لأنها تتحرك مع الزمن وفق معايير خاصة تواكب حركة التطور في حياتنا، فالحرية الفردية هي في رأس سلم القيم في السويد في حين هي بالدرجة الثانية أو الثالثة وربما أكثر عند العرب. والتضامن العائلي هو رأس هرم أولوياتنا بينما نجده في الغرب متأخراً في ترتيب سلم أولياتهم.
ولو رجعنا للتاريخ البعيد أو القريب لوقعنا على عشرات الأمثلة التي تثبت أن المتحول في فضاء القيم أكثر بكثير من الثابت.
فالعبودية لم تكن عيباً في التاريخ القديم وحتى فترة قريبة كانت الولايات المتحدة الأميركية تعتمدها كنظام عام حتى القرن التاسع عشر. كما أن العبودية كانت جزءاً لا يتجرأ من منظومة القيم التي حكمت العالم القديم، وما زالت موجودة بأشكال مختلفة إلى يومنا هذا، ولو نظرنا إلى حضارة اليونان القديمة التي أعطت العالم الفلسفة وروح الديمقراطية، نجد أنها كانت تمجد العبودية عبر فلاسفتها ومفكريها.
كانت الفكرة السائدة عندهم تقول إن العبودية طبيعة، فأفلاطون الذي يعتبر أشهر فلاسفة القيم عبر التاريخ مجد العبودية وكان عالمه الفاضل في جمهوريته يحتوي على العبيد ومات وهو يملك خمسة عبيد.أما أرسطو فقد اعتبر أن السيد هو بالضرورة أفضل من العبد، وفضيلة العبد الوحيدة هي طاعة سيده.
وبين أثينا وأميركا، وما قبلهما وبينهما من حضارات فرعونية ومسيحية وإسلامية وآسيوية وغيرها، سلسلة من الثقافات التي اعتمدت العبودية ووضعتها أحياناً في أولويات سلم القيم. ظل الوضع البشري على هذا النحو إلى أن أطلق الرئيس الأميركي إبراهام لنكلن إعلان تحرير العبيد عام 1863 ليفتح عصراً جديداً من معاداة العبودية. وصارت الحرية وتحرير العبيد القيمة الأولى والفضيلة الكبرى في الغرب وصولاً إلى معظم الشرق. وأصبحنا أمام مشهد جديد، فما كان قيمة عليا وفضيلة(العبودية) صار رذيلة مطلقة.
وكذا الحال مع عمل المرأة، فلو نظرنا إلى أوروبا ما قبل الثورة الصناعية عام 1776، لوجدنا أن القيمة الأهم في التعاطي مع المرأة هي كونها أماً ومربية. أما بعد الثورة الصناعية، صار عمل المرأة خارج المنزل هو القيمة الأهم وهو معيار لقيمة المرأة ذاتها.
وحتى لا نذهب بعيداً فلننظر إلى بلدنا الإمارات كيف كان تعاطي سلم القيم مع المرأة منذ نصف قرن، وكيف أصبح ميزان القيم اليوم، وقد اقتحمت المرأة الإماراتية سوق العمل، من التدريس وصولاً إلى قيادة الطائرات الحربية. والحرية قيمة ثابتة ولكن مفهومها متحول، ففي زمن العبودية كانت حرية الحر قيمة، وطاعة العبد هي فضيلته وقيمته.
أهمية التفكير في تحولات القيم هي في كونها منهجاً إذا اعتمدناه سنصل إلى نتيجة حتمية وهي ضرورة أن نتمهل في إطلاق الأحكام القيمية المطلقة، ونتفهم المختلف أو المخالف. فرُبما قيمة اعتبرناها اليوم رأس سلم أخلاقنا أدركنا بعد زمن تراجعها للخلف في سلم القيم.
ويقع الكثير في حالة التباس بين مصادر القيم، فالقيم تتعدد مصادرها فمنها الديني والمجتمعي والعقلي وكثيراً ما يحدث خلط بين القيم الدينية والقيم المجتمعية والقيم العقلية ويلجأ الكثير من المنغلقين إلى إلباس القيم المجتمعية لباسَ الدين الذي يجد إذعاناً وتقبلاً في نفس الإنسان العادي لما للدين من قداسة وتسليم. وهنا تكمن الخطورة والأزمة التي تعانيها الدول الإسلامية. فأزمتنا أن بعضنا ألبس قيمنا المجتمعية ثوب الدين فأساء إلى الإسلام وإلى قيمه.
إن حالة الالتباس ما بين القيم من المنظور الفردي والقيم من المنظور العام تخلق صراعاً داخل الإنسان بين ماهو فردي وبين ما هو إنساني.النجاح هو قيمة عظيمة يسعى إليها الإنسان وهي قيمة ثابتة لكن تظل آلياتها عرضة للتحولات والصراعات الذاتية التي يعيشها الإنسان، فقد يتعارض النجاح الفردي مع بعض القيم الإنسانية الثابتة، وقد يصل إلى تعارضه مع حق الآخر في الحياة، وهنا يوضع الفرد أمام خيار صعب، لكن لندرك أن الإنسانية دائماً هي خيارنا الأصوب.
القيم مهما تحولت وجرى عليها حكم الأيام، لا يمكن أن تنقص فضيلتها أو تتراجع مكانتها. وبعض القيم يبقى على الدوام في رأس سلم القيم الإنسانية، لأي مجتمع ينشد التقدم، وعلى رأسها القيم التي تعتبر فضائل فردية كالصدق والأمانة، أو فضائل اجتماعية كاحترام الآخر واحترام النظام العام.
إن هذه القيم تعتبر حجر الأساس في بناء المجتمعات، فالمجتمع الذي يغيب فيه الصدق أو تغادره الأمانة يغرق في الفساد والإفساد. أما احترام الآخر والانتظام، فهي القيمة والفضيلة التي لا يمكن من دونها لأي مجتمع أن يستمر أو يتقدم، وغياب هذا النوع من القيم يحول المجتمع إلى غابة يفترس فيها القوي الضعيف.
ولكي نحافظ على القيم من تحولاتها السلبية التي قد تؤدي إلى اختلال سلم القيم المرتبط بثقافتنا الخاصة لابد من تكاتف أربعة محاور مهمة هي مؤسسات المجتمع المدني والدولة ومؤسسة التعليم والأسرة لتكتمل منظومة الحفاظ على القيم من التغير العشوائي والسلبي، لكن هذا لا يعني أن نتجمد عند موقف معين بل لابد أن يكون لنا مراجعاتنا المنهجية لسلم القيم وألا نترك التحولات تسير في شكل عشوائي قد يؤدي إلى انهياره، خاصة بعد التفتت أو التشدد الذي طال الكثير من القيم المجتمعية في المنطقة العربية خلال الخمسين سنة الأخيرة. والذي لازم ظهور أصحاب الفكر المتشدد والذين عبثوا بسلم القيم لمجتمعاتنا العربية واستغلوا خضوع الجميع لسلطة الدين وتغييب سلطة العقل، لذلك لابد من رقابة هذه التغييرات والتحولات واخضاعها للدراسات المنهجية الدورية من خلال مقترح أقدمه للمجتمع المدني وللدولة بإنشاء (مؤشر التحولات القيمية) يحتوي في عضويته أفراداً من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية ذات الصلة والمؤسسات التعليمية بكل مراحلها، ووضع خطة استراتيجية للمؤشر تعتمد على تصور سلم القيم داخل مجتمع الإمارات وتحديد آليات لدراسة التحولات التي تحدث في هذه القيم والعوامل المؤثرة فيها وقياس معدلات الانحراف ليكون لدينا الرصيد العلمي والمعرفي الذي يجعلنا نحافظ على سُلم القيم ثابتاً، وأن يكون التحول المطلوب من خلال الرؤى التي تتغير عبر تغير معطيات الفترات الزمنية بناء على وعي وخطط منهجية تأخذ التحول إلى حيث تعظيم مردود تلك القيم على تحقيق الخير والسعادة للإنسان على أرض الإمارات.
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي