أخيراً ظهر أبو بكر البغدادي بالصورة وبالصوت وبالهزيمة السافرة المُعلنة وبالتهديد والثأر. كأنما شبحٌ أو حطامُ شيخٍ: كل مجده الإجرامي في أمسه وعلى قسماته، بل إن ما نطق به لا يعدو كونه لجلجةً وتأتأةً لا تذهب إلى أكثر من شفتيه. منظرٌ بائسٌ يائسٌ يذكرنا بكل «اليوتوبيين» الذين تساقطوا دون مشاريعهم وأوهامهم. كأنما على ملامحه وفي نبراته ما يُحيلُ على عدة وجوهٍ ومراتب وأسماءٍ وألقاب. إنه الرجل الذي درّبَ في سنوات صعوده على ترقية نفسه بنفسه من زعيم «الدولة الإسلامية في العراق» بديلاً من تنظيم «القاعدة» الذي كان في صفوفه.
وبعد دخوله إلى سوريا بالتواطؤ مع إيران وبشار بدّل تسمية «الدولة الإسلامية في العراق» إلى «الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام» وفي 2014 يعود إلى تسمية «الدولة الإسلامية» ويُعلن ما سماه «الخلافة» بعدما سلمته إيران- عبر عميلها رئيس الوزراء العراقي آنئذٍ نوري المالكي- الموصل تسليم اليد، فبات الخليفة المنتظر و«أمير المؤمنين». ولا نعرف ماذا كان سيسمي نفسه لو توسع بضعة أشبار أو لو بقي على قوته ولم ينهزم بعد سقوط معاقله في الرقة والموصل. ويفرُّ فرار الجبناء ثم سقوطه المدوّي في الباغوز. هُزم «الخليفة الضّليل».
لكن لماذا قرر البغدادي العودة بالصوت والصورة، بعد غياب خمس سنوات ظنّه كثيرون أنه قُتل، وآخرون أنه مُختبئ في أحد الكهوف أو إحدى المناطق النائية مثل بن لادن. ولم يتكهن الناس للوهلة الأولى منذ بروزه ماذا كان يمكن أن يقول وكيف سيقوله؟
لا شيء. ما تفوّه به بدا مجرد ذرُّ غبارٍ ودُخان ونهاية مجد «أمير المجرمين» ودولُه ومجازره المتنقلة. وها هو يُعلن هزيمته لا ليستشِفّ من كلامه إنه خسر معركةً ولم يخسر الحرب. وهذا ما يفسر إعلانه العودة إلى حرب الاستنزاف، وكأنما استخدام هذه العبارة اعترافٌ مبين بخسارة رهانه الأبدي. وكذلك، فظهوره غير المدوّي، جاء ربما من الضغط داخل التنظيم نفسه وإعطاء أنصاره جرعةً مسمومةً من الأمل والثقة. جرعةً بلا طعمٍ ولا أسماء ولا ألقاب ولا حول ولا قوة.
لكن ثمة تفسيرات عدة مختلفة قاربت عودته.. فقد ربط الليبيون بين هذه العودة ومعارك طرابلس بين الجيش الوطني والقوات التابعة (الميليشيات) لحكومة الوفاق باعتبار أنه يحثّ أنصاره على مواصلة العمليات الإرهابية في ليبيا وقد أشاد باستهداف أنصاره بلدة الفقهاء وجنوب البلاد في معركة سقط فيها الضباط وجنود من الجيش الوطني. أي أنه يقصد بالعدو الأول الجيش الليبي. أي الشرعية الدستورية، بل يذهب بعضهم إلى أن خطابه دليلٌ على أن «داعش» كان وما يزال يسيطر على طرابلس سيطرة مموهة تحت مسمى الميليشيات المسلحة.
لكن هناك رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، فقد علّق على الفيديو، محذراً من أن التنظيم مازال يشكل خطراً على جميع أنحاء العالم، وما الفيديو سوى حض الأنصار على ارتكاب هجمات وجرائم ربما قد تكون مدوية (كما فعلت القاعدة عام 2011 في البرجين) مثل مجزرته الأخيرة في سيريلانكا التي ذهبت ضحيتها حتى الآن ما يقارب 500 مدني.
إنه الثأر من الأبرياء. يثأر من الولايات المتحدة بقتل مؤمنين يصلون في كنيسة. ويثأر لهزيمته في سوريا والعراق بذبح العزّل. يهرب جباناً وينقضُّ جباناً على من ليس لهم علاقة بهزيمته أو بغير هزيمته. إنه الجُبنُ المحض. أو لم يسبق أن ارتكب ما ارتكب في سوريا ليغطي جرائم الأسد؟ وهل واجه هذا الأخير أي الأسد ومعه بوتين فعلاً «داعش»!

لكن يبقى أن نقول إن رجوع «الشيخ» إلى مجده المنهار ليس أكثر من محاولة بائسة (اختفت ساعة الروليكس من يده في الفيديو). اختلاف ملامح النصر والدم والشر عن وجهه وحركات يديه وجلسته الثقيلة وإشاراته العشوائية. وكل ما نطق به ليس سوى ما يعترف به الموتى قبل رميهم في حفراتهم الأخيرة.