هناك العديد من القصص التاريخية التي تحمل مفهوم العفو والتي يجب أن نستذكرها في عام التسامح لنأخذ منها العبر، ومنها قصة السلطانة شجرة الدر مع لويس التاسع ملك فرنسا. قبل سرد القصة، يجب أولاً أن نستشهد بسلوكيات رسولنا الكريم واتخاذه فضيلة العفو منهجاً في تعامله مع الآخر. ففي إحدى الغزوات، استراح رسول الله تحت شجرةٍ وعلق سيفه عليها، فباغته مشركاً أخذ سيف رسول الله ثمّ رفعه في وجه النبي وهو يقول، أتخافني، فقال النّبي: لا، فقال الرّجل: «فمن يمنعك مني»، قال: الله، فسقط السّيف من يد الرّجل فأخذه رسول الله على الفور ورفعه في وجه الرّجل قائلاً: من يمنعني منك، فقال الرّجل، كن خير آخذ، فلم يرد الإساءة بالإساءة بل عفى عنه فهرول إلى قومه قائلاً: (جئتكم من عند خير النّاس).
قال الله تعالى في كتابه العزيز: «لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم» آل عمران الآية 159. اتخذ السلف الصالح من الملوك والأمراء هذه الفضيلة الأخلاقية منهجاً في تعاملاتهم مع الآخر باختلاف معتقداتهم ودياناتهم. تخبرنا الكتب التاريخية بأن سقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين كان له صدمة في أنحاء أوروبا. وكانت هناك رغبة من ملوك أوروبا للاستيلاء علي بيت المقدس وكان من بين الملوك المتحمسين لهذه الفكرة هو الملك لويس التاسع ملك فرنسا، ما جعل الأوروبيين يدعون إلى قيام حملة صليبية سابعة لاستعادة بيت المقدس، كانت مصر تمثل حاجزاً يعترض طموحاتهم لاسترجاعه، وأنهم لن يتمكنوا من احتلال بيت المقدس من دون تسيير حملة عسكرية على مصر في عام 1248. وكانت الفرصة ملائمة لتحقيق حلم ملك فرنسا، فقد كان العالم الإسلامي آنذاك تحت هجمات كل من المغول والفرنجة، فقد اجتاح المغول البوابة الشرقية للعالم الإسلامي، واستطاعوا أن يكتسحوا خط الدفاع الأول عن الأراضي الإسلامية، وهي الدولة الخوارزمية، وبعد اجتياحهم لهذه الأخيرة، أصبحت الطرق غير مؤمنة أمام بغداد (عاصمة الخلافة الإسلامية). أثناء تلك الفترة اجتاحت القوات الفرنسية كلاً من دمياط والمنصورة، حيث قاموا بأعمال عدوانية منها الاغتصاب والقتل وأسر الكثير من قيادات الجيش المصري. أثناء هذه الغمامة التي هبت على الأراضي المصرية، توفي الملك الصالح نجم الدين الأيوبي حاكم مصر.
وهنا لمع اسم السلطانة شجرة الدر -زوجة الصالح نجم الدين-بعد موته. فقد قامت بدفنه سراً حتى لا تنهار معنويات الجيش، وحكمت مصر في تلك الفترة. والجدير بالذكر أنها اجتمعت مع القيادات العسكرية للتخطيط العسكري وإعلان بدء ساعة الهجوم على القوات الفرنسية. وبالفعل باغتت القوات المصرية القوات الفرنسية ووقع ملك فرنسا لويس التاسع في الأسر مع عدد من كبار القيادات العسكرية الفرنسية. وظن الملك وكل من في الأسر أن لا شفقة ولا رحمة سوف تنزل بهم جراء ما اقترفوه من أعمال وحشية في المنصورة ودمياط. ولكن السلطانة شجرة الدر قالت مقولتها الشهيرة «نحن لا نقتل الملوك»، وقررت العفو عنه على الرغم من قدرتها بمعاقبته.
العفو عند المقدرة هنا هو أن يتجاوز الإنسان عن سوء لحق به، ومعنى ذلك أن لا يأخذ بثأره، والعفو عند المقدرة هو قدرة الفرد على فرض العقوبة على الطرف المسيء ولكن تجاوز عن الإساءة بكامل إرادته الذاتية ونتج عن ذلك مسامحة الطرف المسيء. والعفو عن الإساءة يتطلب إعادة النظر والتمعن والتفكير للوصول إلى درجة العفو. فهو ليس بالأمر السهل. عفو السلطانة عن الملك الأسير له دلالات كثيرة: أولاً العفو من مبادئ الأخلاق الكريمة التي يدعو إليها الإسلام وأعظمها شأناً. فالعفو قبل أن يكون من أخلاق المسلمين فهو من شيم العرب الأصيلة في العصر الجاهلي. قال رسول الله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ثانياً من فوائد العفو أنه يخلق أصدقاء جدداً أو يجعل العدو محايداً أو ربما صديقاً. ثالثاً امتداح المعفى عنه وتوقيره لأصحاب العفو. رابعاً تخليد أسماء من قاموا بالعفو في التاريخ.
*أستاذ مساعد بأكاديمية الإمارات الدبلوماسية