كثيرة هي البلدان التي نجحت خلال عقود قليلة، وربما سنوات، في مواكبة العلم الحديث بمجالاته المتعددة، وبالتالي رفعت من شأنها بين الدول الكبار. حققت ذلك ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ودول شرق آسيا في ثمانينيات القرن العشرين، والهند في تسعينياته، وتركيا والبرازيل في بدايات القرن الحادي والعشرين، وهذا ما تحاوله اليوم دول أفريقية مثل إثيوبيا ورواندا. وكذلك فعلت إسرائيل، وإن بصورة مغايرة، إذ أدركت مبكراً أن العلم هو مفتاح «صمودها» و«بقائها» وتطورها، فعلى سبيل المثال، وعدا عن اليهود المسيطرين في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وروسيا على المال والسلطة والإعلام، تحولت إسرائيل اليوم إلى نقطة جذب عالمية لاستقطاب الشركات الناشئة، لاسيما تلك المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات والبرمجيات المتطورة، ومنها برامج التجسُّس الإلكترونية، وباتت تبيع منتجاتها بأغلى الأسعار. وقد أعلنت وزارة الأمن الإسرائيلية، مؤخراً، بحسب بيان صادر عن «شعبة التصدير الأمني في الوزارة»، أن عام 2018 «حقق رقماً قياسياً آخر في التصدير الأمني، حيث بلغت قيمة العقود 7.5 مليار دولار». وفي السياق ذاته، فإن «اريك شميدت» الذي كان يشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة «غوغل»، أشاد بقطاع التكنولوجيا في إسرائيل، وقال إنه «يأتي في المرتبة الثانية بعد وادي السيليكون في الولايات المتحدة من حيث المبادرات. وأن إسرائيل التي لا يزيد عدد سكانها على ثمانية ملايين نسمة، تتجاوز حجمها في مجال التكنولوجيا».
وعليه، نسأل: ما بال العرب متأخرين عن هذا السباق، وقد منحهم الله في أرضهم كل مقومات التقدم؟! من الذي أجهض مشروع زعماء الإصلاح، مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي، الذين نبهوا المسلمين قبل أزيد من مائة عام إلى تخلفهم، وقالوا بأن علينا أن نلتحق بركب التقدم؟!
في معرض الإجابة عن ذينك السؤالين الكبيرين، ثمة من يرى أن ظهور تيارات التشدد الديني، الممولة تمويلاً جيداً، والتي رفعت شعار «الإسلام هو الحل»، كان السياق الذي أدى إلى تخريب مشروع زعماء الإصلاح. فهذه التيارات نجحت في قلب الآية! وعوضاً أن يقتنعوا بأننا متخلفون والآخر متقدم وبأن سبب تقدمه هو العقل والعلم واحترام حقوق الإنسان، قالوا إن الغرب منحل وقبيح ونحن المسلمين أفضل من الجميع، ولسبب وحيد هو كوننا مسلمين! نعم، نحن متخلفون فكرياً وتكنولوجياً وعلمياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، متخلفون على جميع الصعد، لكننا أفضل من جميع الدول المتقدمة، فقط لأننا مسلمون! هذه العقيدة السياسية أسهمت بشكل كبير في إضعاف الأمة. وفي السياق ذاته، فإن بعض التمويلات الكبرى حرمت الجاليات المسلمة في أوروبا من الاندماج وتحويل المسلم إلى مواطن صالح يعمل في الدولة التي تؤويه وتحميه وتوفر له التعليم والتأمين الصحي.
ويبقى السؤال: العالم العربي مليء بالثروات، الخطوة الأولى الميسرة من دون عناء كبير للسير في ركب الحضارة والتقدم.. فلماذا إذن ما زلنا (باستثناءات قليلة جداً) متأخرين عن العالم المتقدم؟!
في العصر الحديث، أضحى الإنسان عالمياً هو الاستثمار الأنجح والأكثر ربحاً. كم هو مؤلم أن إسرائيل تتقدم في امتلاك عناصر القوة، بينما العالم العربي (والإسلامي) في غالبيته يتراجع في كل شيء تقريباً، وفي وقت ما تزال فيه «الأمية» تمثل واحدة من أولى قضايا الأمن القومي العربي! فرغم انخفاض معدلاتها بشكل كبير منذ عام 1970، فإن معدل الأمية في البلدان العربية لا يزال مرتفعاً، مقارنة بالمتوسط العالمي لها. ولقد أظهرت إحصائيات «الألكسو» (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) لعام 2018، بأن معدلات الأمية في الوطن العربي وصلت 21%، أي أعلى من المتوسط العالمي البالغ 13.6%. وأضافت المنظمة بأن هذه الأرقام «قابلة للارتفاع في ظل الأوضاع التعليمية التي تعانيها بعض الدول العربية بسبب الأزمات والنزاعات المسلحة والتي نتج عنها عدم التحاق قرابة 13.5 مليون طفل عربي بالتعليم النظامي بين متسربين وغير ملتحقين»، موضحة أن «نسبة الأمية لدى الذكور في العالم العربي هي في حدود 14.6%، بينما ترتفع لدى الإناث إلى 25.9%، وتتراوح نسبة الإناث الأميات في عدد من دول المنطقة بين 60 و80%»!
قضية إصلاح التعليم واحدة من أهم وأخطر القضايا، وصلاح الحياة وإصلاح الأحياء يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بإصلاح التعليم، فالأمر لا يخص فرداً بعينه، بل هو قضية تخص المجتمع كله والأمة بأسرها. لذا، يتعين البدء من التعليم المبكر، الذي منه تنطلق قدرات الإنسان نحو بناء مجتمع معتز بهويته وتراثه وثقافته، وفي ذات الوقت منفتح على ما أنجزته الإنسانية جمعاء في مجال المعرفة.. عندها تبدأ الخطوة الأولى نحو بناء المجتمع الناجح. نعم، عبر إدارة وتنمية قطاع التعليم قبل الجامعي للاستجابة للاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع، بهوية وطنية لا تنفصل عن الاتجاهات العالمية، وبالطبع على أساس تنمية عقلية نقدية تتساءل وتتحاور وليس على قاعدة اجترار عقلية أساسها التلقين.