كيف وصل التشنج بين الولايات المتحدة وإيران إلى التوتر العالي الذي ينذر حالياً بمواجهة محتملة، ولماذا تجازف أميركا بإشاعة أجواء حرب إذا كانت لا تريدها، ولماذا تصعّد طهران التحدّيات مع علمها بأنها إزاء إدارة أميركية مصممة على «تغيير السلوك الإيراني»، وهل يمكن لأي مواجهة عسكرية أن تفضي إلى تفاوض تريده واشنطن، وماذا تفيد المواجهة إيران إذا كانت لا تكفي وحدها لكسر العقوبات؟.. أسئلة وأخرى غيرها تثيرها مواظبة دونالد ترامب على بناء منظومة ضغوط على إيران، فيما يراكم نظام الملالي الأخطاء في تقدير الموقف الأميركي.
منذ حملته الانتخابية قال ترامب أنه سيلغي الاتفاق النووي، لكن طهران قللت من تهديده معوّلة على تقارير إيجابية لوكالة الطاقة الذرّية، ومعتبرةً أن المسّ باتفاق دولي ليس من السوابق السهلة. لذلك كثّفت خلال 2017 التجارب في برنامجها الصاروخي بما شكّلته من استفزاز للقوى الغربية كافة ولواشنطن خصوصاً، فيما زادت وتيرة تدخّلاتها الإقليمية. ثم إنها لم تتعامل بجدّية مع وساطات أوروبية نبّهتها إلى أن ثمة أزمة آتية لا محالة، وحاولت إقناعها بفتح الاتفاق النووي لتعديله أو بقبول مفاوضات جديدة تتناول برنامجها الصاروخي وسياساتها في المحيط العربي. رفضت طهران كل الاقتراحات، ويُعتقد أنها كانت تتفاوض مع الأميركيين عبر قنوات سرّية، وترددت معلومات غير مؤكّدة عن أنها أوقفت هذا التفاوض في ديسمبر 2017 بعد اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل.
اهتمّت إدارة ترامب أولاً بجذب الأوروبيين للانضمام إليها في عزمها على «إلغاء» الاتفاق، غير أن عوامل عدّة جعلتهم يُعرضون عن مجاراتها، منها المؤشرات السلبية التي جهر بها ترامب حيال مساهمة أميركا في حلف الأطلسي (الناتو)، ومنها أيضاً تباين في النظرة إلى مسألة أوكرانيا ورفع العقوبات المفروضة على روسيا في سياقها. وبسبب الموقف الأوروبي نُصح ترامب بألا يعلن إلغاء الاتفاق النووي وأن يكتفي بالممكن، أي بانسحاب أميركا منه، وهو ما حصل في 8 مايو 2018 وبعد ثلاثة أشهر (5 أغسطس) أعلنت الموجة الأولى من استئناف العقوبات لتتبعها موجة أخرى (4 نوفمبر) فارضة للمرّة الأولى حظراً على تصدير النفط، مع إعفاءات لثماني دول ما لبثت أن أوقفت في 2 مايو الحالي بغية «تصفير» الصادرات.
تزامن الانسحاب الأميركي من الاتفاق مع سلسلة ضربات إسرائيلية لمواقع إيرانية في سوريا، بفعل تنسيق روسي- إسرائيلي، ما أنذر المراقبين بأن مرحلة جديدة بدأت وأن حقبة المغامرات المأمونة لإيران تشارف على نهايتها. ومع استئناف العقوبات توقفت كل العقود التي أبرمتها دول وشركات عدة مع إيران، لئلا تُخرجها واشنطن من النظام المالي العالمي وتحرمها من الأسواق الأميركية. وبعد تعرّض محيط السفارة الأميركية في بغداد مرّتين لقذائف (سبتمبر وديسمبر 2018)، وسط أنباء عن نقل إيران صواريخ بالستية إلى ميليشيات عراقية، وجّهت واشنطن إنذاراً إلى طهران يحمّلها مسؤولية مباشرة عن أي اعتداء. وهو الإنذار الذي تكرّر الأسبوع الماضي، لكن بعد إرسال حاملة الطائرات «ابراهام لينكولن» وقطع بحرية إلى الشرق الأوسط كردٍّ على استعدادات إيرانية لشنّ هجمات واحتمال إغلاق مضيق هرمز لمنع تصدير أي نفط خليجي. قبل ذلك كانت واشنطن صنّفت «الحرس الثوري» كمنظمة إرهابية، ومع أن هذا الإجراء ميّز الجيش الإيراني عن «الحرس» إلا أن ردود طهران ركّزت على أنها المرّة الأولى التي يتعرّض فيها «جيش دولة» لمثل هذا التصنيف.
يُستدلّ من الإجراءات التي أعلنها حسن روحاني أن لا خيارات كثيرة لدى طهران بعد مرور عام على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، بل إنه لوّح بانسحاب مماثل بعد مهلة شهرين حدّدها للأوروبيين كي يحسموا أمرهم بحماية إيران من العقوبات خصوصاً تلك التي ضربت قطاعيها المالي والمصرفي. يُستدلّ أيضاً من التعزيزات العسكرية الأميركية المتواصلة أن الخيارات الكثيرة لـ«الحرس» لا تنفكّ تضيق، بما فيها الاعتماد على الميليشيات في العراق وسوريا واليمن، فأي تحرّك سيُحسب عليه وسيستدعي ردّاً أميركياً.
لعل الأسوأ بالنسبة إلى إيران هو استدراجها إلى حرب لا تريدها، إذ تشعر بأن القوة العسكرية التي سخّرت لها مواردها لم تفد شيئاً في صدّ العقوبات وتأثيراتها الموجعة في الاقتصاد. الأسوأ أيضاً أنها دُفعت إلى وضع صعب، إذ يمكنها استخدام أتباعها هنا وهناك، لكنها متيقنة بأن الميليشيات باتت تعمل في بيئات غير مؤاتية ولن تحقق لها الأهداف التي ترسمها. وهكذا فإن استمرار العقوبات مع صعوبة كسرها عسكرياً يعني أن عناصر أساسية في استراتيجية إيران قد تعطّلت.