ما إنْ يُزف للمسلمين دخول رمضان حتى يتبادر لدى الجميع متعلقات هذا الشهر الفضيل، من إقامة الشعائر واجتماع القلوب، وبذل الخير بأقصى ما يمكن. متسائلاً كلٌ منا عن السبيل لصوم شهر رمضان المبارك وأداء حقه علينا بإحسان، ونزولاً عند ذلك تتزايد البرامج التلفزيونية المتعلقة بشأن الفتاوى وتقديم النصح والإرشاد من نزر الأمور لبحرها، وعلى غير العادة برزت منذ أيام مقابلة على إحدى القنوات مع الشيخ عائض القرني، حازت جل الاهتمام والتركيز من القاصي والداني.
إذ تباينت وجهات النظر وتعددت حول الاعتذار المقدم من الشيخ عائض القرني خلال المقابلة، فمنهم من نظر للاعتذار بطريقة فردية، ومنهم من رأى أنه اعتذار جمعي لمجتمعات كاملة ضمت أجيالاً من الفكر والرؤى، وفحوى هذا الاعتذار، كانت عن الأخطاء التي وقع بها خلال فترة نشاطه بما يدعى «تيار الصحوة». وما أصدره ذلك التيار من فكر متشدد بعيد عن روح الإسلام الحقة.
لا بد من النظر لذلك الاعتذار بعين عاقلة، فاهمة، وواعية لمستلزمات بل وحتميات الضرورة الزمانية التي يموج بها العالم، وأخذ هذه الخطوة الجريئة بعيداً عن أي تفاصيل أو سطحية، فقد فتح القرني الباب على مصراعيه لينظر كل من المؤسسات الإسلامية والقائمين على الشأن الديني في إعادة بلورة حيثيات الرسالة والمنهج والنظر للأمور بحيثياتها الجلية بعيداً عن الضبابية والسير وراء الشعارات المبطنة بأهداف لا تؤول لإقامة مصالح البلاد ولا العباد، واضعاً أولى اللبنات الدعوية التي من شأنها أن تبني حصناً منيعاً في وجه سيل التطرف وتمنع تغذيته، وتجفف منابعه.
كما يجيء هذا الاعتذار في شهر الرحمة والمغفرة، الذي اعتاده المسلمون شهراً للإنجازات والانتصارات لا للكسل والتقاعس، مما يبشر بإمكانية أن يكون هذا اللقاء مفصلاً حقيقياً أو «تاريخياً» كما ذكَر المضيف خلال البرنامج، وذلك من خلال تكاتف وتعاضد إرادة أصحاب العقول والنوايا البيضاء، وباغي الخير وبخاصة التائبين عن الخوض في معترك تلك الحركات والجماعات التي تترك نصاعة وسماحة الدين، مغرقةً في الخوض بشكليات سطحية، تستهين من عقول أبناء المسلمين، وتحدد من إرادتهم وإلمامهم ومعرفتهم لرياض الإسلام النقية المرتكزة على السلم والمحبة والإخاء.
إن للمراجعات الفكرية التي تتناول جل ركائز تلك الجماعات التي تحيد بالمجتمعات عن سبيل نموها وازدهارها، كـ «الصحوة» و«الحاكمية»، وإتباعها بإطلاق مبادرات تحتضن الشباب، وتحترم عقولهم التي عانت لفترة، دوراً محورياً ورئيساً في إنعاش بذرة الخير فيهم، وصون فطرتهم السليمة التي تنزع لـ«صحوة» حقيقة لا «كبوة»، لصحوة العطاء ضد التقاعس، والازدهار بدلاً عن التدمير والخراب، والنهوض والنهضة لا التراجع، والسلم والمحبة لا الاحتراب والإرهاب.
ولأن لكل سلاح حداين، فسيتصدر على الساحة عدة جهات ترفض وجود مثل هذا الاعتذار؛ إذ أنه يعيق ما تصبو إليه من أهداف في استكمال دعمها للإرهاب، ومن هنا لا بد من تفعيل الدور المترتب والمسؤولية الواقعة على الأئمة والخطباء والقائمين على شأن الإفتاء وبخاصة في دول لديها مجتمعات مسلمة الذين -للأسف- تعتبرهم الجهات الضلالية فريسةً غضة متعطشة للاستزادة من روح الإسلام. ذلك أن إقامتهم لدورهم المنوط إليهم يعتبر ركازاً لتحقيق وحفظ أمن الأمة الروحي، باعتبارهم قدوة لأبناء أمتهم، كما أن تعزيزهم لوحدة واستقرار وأمن المجتمعات التي يقيمون فيها هو أحد عوامل أمن المسلمين كافةً.
ما صرح به القرني يعتبر في غاية الخطورة حين قال: «كلما ابتعدت عن دولتك فأنت محبب لديهم»، فاضحاً سلاح دول التخريب والتدمير في محاولاتها الحثيثة لشرخ مفاهيم المواطنة وتحوير الأفراد إلى عامل تخريب وتدمير بدلاً من إعمار ونهضة لبلدانهم. ومن هنا لا بد من ترجيح كفة الخير، والبدء بالاشتغال الحقيقي بالصحيح من الدين، والالتزام بخطاب وسطي معتدل يحترم سيادة الدول، ويعزز قيم المواطنة والمشاركة والتواد والتعاون والتراحم، واجتناب ما يثير نوازع الفتنة والفرقة بين المسلمين أنفسهم وبين غيرهم، والتحذير من آفتي الغلو في الدين والتطرف العنيف، وتفعيل مراكز الطفولة والشباب لتحصينهم، وتعريفهم بمبادئ الإسلام، وزرع أخلاق الرسول في نفوسهم، ترسيخاً للسلوك والفكر الإسلامي القويم.
وختاماً، ما يجعل هذا الاعتذار فريداً من نوعه، أن تقديمه وتحقيقه لا يتوقف على القرني بعينه، فهذا الاعتذار بذرة تحتاج أرضية لاحتضانها وسواعد متكاتفة لإثمارها وريها والتشارك ببهجة نموها غصناً أخضر ينشر السلام أينما حل أو ارتحل.