يتسبب ما نتناوله من طعام يومي في 11 مليون حالة وفاة مبكرة سنوياً. هذه كانت خلاصة نتيجة دراسة كبرى نشرت مؤخراً في إحدى الدوريات الطبية المرموقة (The Lancet). وبذلك يكون الطعام اليومي سبباً أكبر للوفيات من التدخين، كونه مسؤولاً عن واحدة من بين كل خمس حالات وفاة بين أفراد الجنس البشري.
والدراسة المشار إليها هنا، وتحمل اسم «العبء العالمي للأمراض» (The Global Burden of Disease Study)، هي عبارة عن برنامج بحثي يشرف عليه معهد القياسات والتقييمات الصحية في جامعة واشنطن بمدينة سياتل الأميركية، ويشارك فيه 1,800 باحث على مستوى العالم، في 127 دولة، وتُعنى الدراسة بتقييم عبء الأمراض الرئيسة، على صعيد ما تتسبب فيه من حالات وفاة ومن إعاقات، وعلى المستويين الإقليمي والدولي.
وحسب هذه الدراسة التي تمولها مؤسسة «بيل وميلندا جيتس»، وتعتبر المرجع الرئيس لأسباب الوفيات حول العالم، تتجه أصابع الاتهام لثلاثة متهمين رئيسين: ملح الطعام والمسؤول عن ثلاثة ملايين حالة وفاة سنوياً، ثم عدم تناول كميات كافية من الحبوب الكاملة والمسؤول عن وفاة ثلاثة ملايين آخرين، ثم عدم تناول كميات كافية من الفواكه والمسؤول عن وفاة مليونين إضافيين. وبخلاف هؤلاء المتهمين الثلاثة، يُتهم أيضاً - وإن كان بشكل أقل- عدم تناول كميات كافية من المكسرات، والبذور، والخضراوات، وأوميجا-3 من المأكولات البحرية، بالإضافة إلى عدم تناول كميات كافية من الألياف الغذائية.
ولابد من التنويه هنا بأن هذه الدراسة ليست مقصورة على السمنة - والتي تعتبر من مضاعفات الكمية والنوعية السيئة للغذاء اليومي - وإنما تشمل جميع حالات الوفاة الناتجة عن الغذاء، حتى بين من يتمتعون بوزن طبيعي. وهو ما يفسر حقيقة وضع ملح الطعام على رأس قائمة المتهمين، كون 10 ملايين من الـ 11 مليون حالة وفاة المرتبطة بنوعية الغذاء، هي بسبب أمراض القلب والشرايين والتي يعتبر فرط استهلاك ملح الطعام، سواء كان ظاهراً بيناً، أو مخفياً متستراً في أرغفة الخبز، وصلصات الطعام، أو اللحوم المصنعة، أحد أهم عوامل الخطر الرئيسة خلفها، نتيجة ما يتسبب فيه من ارتفاع ضغط الدم والذي يزيد بدوره من خطر الإصابة بالذبحة الصدرية وبالسكتة الدماغية.
وقد يندهش البعض من الطرق التي يندس بها ملح الطعام في غذائنا اليومي، ليجد سبيله خفية إلى موائد طعامنا. فعلى سبيل المثال، محتوى كوب من مشروب الشوكولاتة الساخنة من الملح، والمنتج من قبل شركة عالمية شهيرة في مجال الأغذية والحلوى، يزيد على محتوى الملح في كيس من رقائق البطاطس المملحة أو «الشيبس». حيث يحتوي كل 100 جرام من مشروب الشوكولاتة هذا، على 2,5 جرام من الملح، أي قرابة سبعة عشر ضعف الحد الأقصى الموصى به أو 0,15 جرام فقط لكل 100 جرام.
وضمن سلَّتي تسوق، قارنت بين محتوياتهما جمعية خيرية بريطانية ناشطة في مجال توعية العامة بمحتوى الملح في الأغذية الشائعة، احتوت السلة الأولى على أغذية صحية قليلة الملح، أما السلة الثانية فكانت الأغذية غير الصحية هي السائدة فيها. اكتشف الباحثون أن أطعمة السلة غير الصحية تحتوي على 57 جراماً من الملح أزيد من أطعمة السلة الصحية، وهو ما يعتبر فرقاً هائلاً، بناءً على أن التوصيات الصحية تنص على أن لا يزيد المتناول يومياً من الملح عن 6 جرامات فقط، وأقل من ذلك للأطفال وصغار السن.
ولن يتسع المقام هنا لاستعراض بقية قائمة المتهمين، خلف أكثر من 20 بالمئة من الوفيات البشرية السنوية، إلا أن من المؤكد أن نوعية غذاء الجنس البشري، طرأ عليها تغير جوهري خلال العقود القليلة الماضية. فمع نهايات الثورة الصناعية، وانتقال الإنسان من بعدها إلى عصر التكنولوجيا الرقمية، حدثت ثورة أخرى، تمثلت في التطور الهائل الذي شهدته صناعة الأغذية. هذه الثورة الجانبية، نتجت عنها آثار صحية كثيرة وخطيرة، مثل ارتفاع عدد السعرات الحرارية التي أصبح الإنسان يستهلكها في غذائه اليومي، وزيادة كمية الملح الأبيض والسكر المكرر في الغذاء اليومي، وانخفاض كمية الألياف الغذائية في الطعام اليومي، ذات الأهمية الفائقة في عملية الهضم، وامتصاص الماء ومرور الطعام عبر الأمعاء والذي يحقق استهلاك كميات وافية منها درجة ملحوظة من الوقاية ضد طائفة واسعة من الأمراض والعلل، لدرجة أن الكثير من العلماء والمتخصصون أصبحوا يرون أنها تستحق عن جدارة لقب الغذاء السحري وصفة الطعام المعجزة.