تتحول الثروة إلى المعرفة والإبداع، ولم تعد الموارد المادية تشكل بالنسبة للاقتصاد والثروات سوى نسبة ضئيلة، وكما أن لكل عصر مقياساً رئيسياً للثروة والتقدم، فإن مقياس الثروة والتقدم في ظل الثورة الصناعية الرابعة هو الكفاءة المعرفية للإنسان، أو ما صار يسمى رأس المال البشري، كيف نطور ونفهم ونقيس الكفاءة الإنتاجية أو رأس المال البشري، بما هو العمود الفقري للاقتصاد الجديد؟
نملك جميعنا أو معظمنا اليوم رؤية على قدر معقول من الوضوح والكفاءة للنتائج المأمولة للكفاءة المعرفية والإنتاجية، ونؤشر إليها بالإبداع، ونسوق أمثلة كثيرة أصبحت مشهورة ومتداولة على نطاق واسع عن الثروات والمؤسسات العملاقة، التي تكونت حول المعرفة والإبداع، مثل جوجل، ومايكروسوفت، وآيفون، وآيباد وفيسبوك، وأمازون وعلي بابا، أو الاقتصادات الرقمية والأعمال حول الشبكة وعن بعد وفي التطبيقات التقنية المتعددة في مجالات الأعمال والحياة، لكنها أمثلة تؤشر إلى النهايات أو المحصلة، وليست هي المقياس الأساسي للتقدم والازدهار، وتقع المؤسسات التعليمية والتنموية والتدريبية في الخطأ أو الإحباط عندما تبدأ بالتفكير والتخطيط للعمل بالنهايات الكبرى المرئية، يشبه ذلك كما يقال محاولة صعود السلم بالقفز إلى الدرجة الأخيرة.
إن الإعلام بتأثيره الواسع وإغوائه العميق يدفع الأمم إلى أعمال ومبادرات تتجاوز المراحل والمتطلبات الأساسية للكفاءة المعرفية والإنتاجية، وفي ذلك نضلل أنفسنا تحت وطأة الانطباع والشعور بالإنجاز، ونهدر الوقت والموارد، ونمضي بأنفسنا ومؤسساتنا إلى الفشل والإحباط، فالإبداع محصلة لمنظومة واسعة ومعقدة ومتراكمة من الأعمال والمتطلبات والإنجازات، هكذا فإن الإبداع وامتلاك ناصية اقتصاد المعرفة هما ببساطة بيئة من الأعمال وخريطة واسعة من المؤشرات القاسية، تبدأ مع الإنسان منذ الولادة وترافقه طوال سنين حياته، في عملية مستمرة بلا توقف. ولحسن الحظ فإن البنك الدولي يقدم اليوم مجموعة واسعة من المؤشرات والمقاييس والأدلة والأفكار العملية والواضحة لبناء وتطوير رأس المال البشري، بما هو الثروة الرئيسية في اقتصاد الإبداع والمعرفة، وهو أيضاً الشرط الأساسي لعبور المرحلة الجديدة، وامتلاك الفرصة للمشاركة في الثورة الصناعية الرابعة، بما هي بصرامة لا يمكن تجاوزها أو نسيانها التخلي عن معظم، إن لم يكن جميع الأعمال والمؤسسات والمهن في حالتها وتشكيلتها، التي نشأت في ظل «الصناعة» ومركزيتها والدخول في عالم جديد «لا مركزي» من المؤسسات والمهن والأعمال والقيم والعلاقات يمكن وصفها ب«الشبكية».
يؤشر البنك الدولي إلى رأس المال البشري أو الكفاءة الإنتاجية بكفاءة التعليم والصحة والمهارات الاجتماعية، ولكن في التفاصيل الكثيرة والجديدة في ملاحظة الكفاءة صار ممكنا حتى للمثقف العام أن يقيم ويراجع الأداء العام في التعليم والصحة والإبداع ويلاحظ الإنجاز والقصور، ويميز بين الصواب والخلل في أداء المؤسسات حتى وهي تبدو تعمل.
والتعليم يُقاس بمنظومة من المهارات والمعارف، التي تحدد مستوى التحصيل والإبداع، ولذلك فقد لاحظ البنك الدولي أن ثلثي الأطفال الذين لا يقرؤون ولا يكتبون يذهبون بالفعل إلى المدارس ولكنهم لا يتعلمون. وصار مؤشر رأس المال البشري يقيس السنوات الفعلية للتعليم، وليس ما يقضيه التلاميذ في المدرسة. وفي بلاد عربية كثيرة يُقيّم المستوى المعرفي والتعليمي الحقيقي بسنوات تقل عن نصف السنوات التي يقضيها التلاميذ في المدرسة، وأن معظم الطلاب يتخرجون في الثانوية وهم لا يملكون الاستعدادات والكفاءات اللازمة للدخول إلى الجامعات، وأن معظم خريجي الجامعات لا يملكون الكفاءة التي تؤهلهم للمشاركة في سوق العمل، وأن معظم المعلمين لا يملكون الاطلاع الكافي لاستيعاب وتدريس المناهج التعليمية المقررة.
وفي المقابل، فإن سياسات التعليم المبكر منذ الثالثة، وبرامج التغذية الجيدة والمناسبة للأطفال، وتكريس عادات وبرامج الوقاية، والنظافة والتطعيم تمنح الأطفال فرصاً كبرى للعيش حياة أطول وفي صحة جيدة، وعلى نحو أمكن قياسه وملاحظته، فإن أبناء الفقراء الذين تلقوا تعليماً مناسباً ورعاية صحية وتغذية جيدة زادت قدراتهم في التنافس على الأعمال والفرص بنسبة 25 في المائة، وهي نسبة كافية بدرجة معقولة لجسر الفجوة بين الفئات الاجتماعية والاقتصادية.
وعلى نحو عملي، فإن خريطة العمل والإنجاز تنطلق من التعامل مع قاعدتين تعملان ببداهة اليوم، وهما أن التقنية تغير جوهرياً في الأعمال والموارد، وأن المؤسسات تميل إلى الاستغناء أو التقليل من العمالة البشرية كلما أمكن للتقنية أن تؤدي أعمال البشر، ولا مجال لمواجهة هذه القاعدة إلا بقدر ما يمكن التصدي للمنخفضات الجوية ومحاولة إيقافها، والقاعدة الثانية أن أعمالاً جديدة تنشأ في ظل التقنية الجديدة، وفي ذلك فإن الأمم (الدولة والمجتمعات والأسواق والأفراد) تعيد تشكيل ومراجعة مؤسساتها ومواردها باتجاه التحول للأعمال الجديدة، ومن البديهي أيضاً أن التعليم والصحة والتماسك الاجتماعي متطلبات تُشكل معاً مداخل أساسية ورئيسية لاستيعاب هذه التحولات وبناء المعارف والمهارات الجديدة اللازمة للأسواق والأعمال الناشئة.