يمتلك العديد من الساسة بعض الصفات إلى جانب كونهم زعماء دول، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب يجمع بين صفتين مهمتين للغاية، فبالإضافة إلى كونه رئيس أقوى دولة في العالم ويحدد الكثير من المسارات الدولية، فإنه رجل أعمال استفاد من خبرته في قطاع الأعمال وسخرها لإدارة شؤون الدولة الاقتصادية، سواء على المستوى الداخلي، أو في علاقة الولايات المتحدة الاقتصادية والتجارية مع الدول الأخرى.
في البداية هناك مواقف سياسية متفاوتة للرئيس ترامب - إلا أن ذلك ليس موضوعنا هنا - فهو متروك لتحليل السياسيين، إلا أن الجانب الاقتصادي في توجهات الرئيس ورجل الأعمال، هو ما يهمنا بالدرجة الأساسية، حيث تمكن ترامب من تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة، إذ أدار الدولة في هذا الجانب، كشركة بنظام الربح والخسارة وبروح براغماتية تختلف عن كل ما سبقه من رؤساء للولايات المتحدة.
والحال، فإن ترامب فرض على أعضاء حلف «الناتو» زيادة مساهماتهم في الحلف لتصل إلى نسبة مقاربة من مساهمة الولايات المتحدة كنسبة من ناتجها المحلي الإجمالي، فدول الحلف ومعظمها أوروبية تعتمد عسكرياً على واشنطن وفي الوقت نفسه تساهم بنسبة أقل من ناتجها الإجمالي في تمويل نفقات «الناتو»، حيث استمر ذلك لعقود طويلة. وينطبق ذلك على اليابان وكوريا الجنوبية اللتين زادتا إنفاقهما العسكري لتحمل المزيد من التكاليف في آسيا، مما وفر مبالغ طائلة للولايات المتحدة.
أما علاقات واشنطن التجارية مع شركائها الرئيسيين، فقد تمت إعادة هيكلتها جذرياً، وهو ما حقق مكاسب لا تقدر بثمن للولايات المتحدة، فالصين، وهي أكبر شريك تجاري خفضت بعض الرسوم الجمركية على الواردات الأميركية، وذلك بعد قرار الرئيس ترامب بفرض رسوم إضافية بأكثر من 200 مليار دولار على الواردات الأميركية من الصين، والتي دخلت حيز التنفيذ نهاية الأسبوع الماضي، حيث يطالب ترامب بالمزيد من الإجراءات، إلا أن الصين ردت بفرض رسوم على وارداتها من أميركا بمبلغ 60 مليار دولار، مما يعني أنهما ومعهما العالم دخل في حرب تجارية رسمياً، والأهم من ذلك أن الصين وتحت الضغوط اتخذت إجراءات لحماية الملكية الفكرية، وتقييد تسرب التكنولوجيا الأميركية لأسواقها، والذي كان يكلف المؤسسات الأميركية خسائر فادحة.
وبالنسبة لجيرانه الأقرب أعاد الرئيس صياغة اتفاقياته التجارية مع كل من كندا والمكسيك، والتي كان يعتقد أنها مجحفة بحق بلاده، وذلك إلى جانب نيته في فرض رسوم إضافية بمبلغ 11 مليار دولار على واردات الولايات المتحدة من دول الاتحاد الأوروبي إذا لم يراجع الاتحاد الإعانات التي يقدمها لمؤسساته الاقتصادية، حيث ساهمت هذه وغيرها من الإجراءات في دعم الاقتصاد الأميركي وتوفير مصادر تمويل وفرص استثمار وعمل إضافية، مما أوجد له انعكاسات إيجابية كبيرة على الاقتصاد الأميركي والذي حقق في العامين الماضيين، أي منذ دخول ترامب البيت الأبيض مؤشرات اقتصادية إيجابية جداً.
وضمن هذه المؤشرات تأتي معدلات النمو والتي تتمحور حول 3% سنوياً، علماً بأنه بلغ 4.1% في الربع الأول من العام الماضي، وتم توفير ملايين الوظائف، مما أدى إلى انخفاض معدل البطالة إلى 3.6% وهو الأدنى منذ خمسين عاماً، إذ تم إضافة 263 ألف وظيفة في شهر أبريل الماضي وحده، كما انخفضت معدلات التضخم إلى 2% فقط بفعل قوة الاقتصاد.
وبفضل القيود على تسرب التكنولوجيا من خلال خرق حقوق الملكية الفكرية، أدت سياسة ترامب إلى عودة عشرات المليارات من القيمة المضافة الناجمة عن التطور التقني للشركات الأميركية، والتي استفادت منها بعض الدول من خلال إنتاج الماركات العالمية المزودة بتكنولوجيا أميركية، بما فيها وسائل الاتصال الحديثة المنتجة في الصين بصورة أساسية.
من ذلك يتضح أن الرئيس ترامب لا يعيد هيكلة علاقة بلاده الاقتصادية والتجارية مع شركائه الرئيسيين فحسب، وإنما مجمل العلاقات الاقتصادية الدولية والتي يحاول من خلالها تحقيق مكاسب جديدة على أسس تجارية أكثر رسوخاً من وجهة نظره.