ارتبط التسامح في النص الإسلامي المؤسس (القرآن الكريم) بقيم مثل الرفق الذي هو ضد الحمق والخرق والعنف، وكذلك الحلم، الذي يعني الوعي بحالات الضعف التي تنتاب الإنسان والصبر عليها، وأيضاً العفو وهو الاستعداد للتنازل عن الحق الشخصي، وقبل كل هذا بالرحمة، التي هي القيمة المركزية للإسلام، ما يدل عليه مخاطبة الله سبحانه وتعالى للرسول الكريم قائلاً له: «وإنك لعلى خلق عظيم». وتجلت هذه المعاني في الكثير من التصرفات التي أتى المؤرخون على ذكرها، مثل «وثيقة المدينة» التي أبرمها الرسول مع أهل يثرب بمن فيهم اليهود، وتعامله مع نصارى نجران، وتصرفات الخليفة الثاني عمر بن الخطاب المتمثلة في «العهدة العمرية» والتي كانت ثورة بمقاييس زمنها، وعقابه لابن والي مصر عمرو بن العاص حين ضرب صبياً قبطياً. وقد احتشدت عبقريات العقاد، على سبيل المثال، بكثير من هذه المعاني، وكذلك كتابات خالد محمد خالد عن الصحابة، وكتابات عبد الحليم محمود عن المتصوفة.
لكن قضية التسامح الديني لم تتبلور نظرياً بشكل محدد المعالم إلا مع كتابات «إخوان الصفا وخلان الوفا»، (هم جماعة من فلاسفة المسلمين من أهل القرن الثالث الهجري والعاشر الميلادي بالبصرة اتحدوا على أن يوفقوا بين العقائد الإسلامية والحقائق الفلسفية المعروفة)، حسبما يرى علي خليل حمد في كتابه «التسامح في الفكر العربي»، حيث لم تشتمل رسائلهم على عبارة صريحة أو ضمنية تنطوي على تعصب لشعب على آخر، أو لأمة على أخرى. وينهض التسامح لديهم على مبدأين هما:
أولاً: الأديان متماثلة في حقائقها الإلهية، وإنما يقع الاختلاف في الشرائع أو مناهج العمل والأوامر والنواهي، وهو اختلاف ينسجم مع اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال. ثانياً: اكتساب الفرد لدين ما لم يقع باختياره، بل تم في صغره وترسخ في نفسه، بحيث عاد لا يستطيع الخروج عليه، ما يجعله غير مسؤول عما لا يرضى الآخر عنه منه.
وتحدث «إخوان الصفا» عن التسامح المذهبي والقائم على عدة نقاط اختلاف، مثل اختلاف في ألفاظ القرآن كالذي بين القراء، واختلاف في المعاني مثل ما هو بين المفسرين، واختلاف في أسرار الدين وحقائق معانيه الخفية كالذي بين المقلدين والمستبصرين، واختلاف في الأئمة كالذي بين الشيعة، واختلاف في أحكام الشريعة، وسنن الدين، كالذي بين الفقهاء.
لكن الفكر والفقه الإسلامي فيما بعد اعتبر أن المشكلة الأساسية لا تحل بـ «التسامح» إنما
بـ «فتح باب الاجتهاد» فانشغلت العقول بهذا، ولم يخل انشغالها من معنى وسبب مقنع، نظراً لأن توقف الاجتهاد ساعد على بقاء كثير من الآراء التي تكرس التعصب، وتقلل من قيمة التحاور والتعارف، لاسيما في ظل دخول العالم الإسلامي في صراعات متواصلة، بدءاً بالصليبيين والمغول وانتهاء بالحركة الاستعمارية في العصر الحديث.
وعاد العرب يطرحون القضية مع نهضتهم الحديثة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، فاشتبك المسيحيون العرب في جدل حول نظرية داروين، ثم تدخل بعض المسلمين للدفاع عن الإسلام في مواجهة مستشرقين وسياسيين تحدثوا عن حرية الضمير، وحرية تغيير الدين، وأخذوا على المسلمين مسألة حد الردة والجهاد وتهميش النساء، حسبما يرى رضوان السيد، ثم تحدث أمين الريحاني عن التساهل الديني، ورأى أنه أساس التمدن، لأنه أطلق طاقة الفكر الجريء في كل مجال، وعزز سلطة الضمير، وقيد السلطة السياسية المتألهة، ومنح الحريات الفردية والعامة، وكتب أديب إسحق عن التعصب والتساهل، وكتب جمال الدين الأفغاني عن مثالب التعصب، وقدم سليم البستاني وشبلي شميل العديد من الآراء التي التقطوها من الفكر الغربي في هذا الصدد. وقد التف الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي على المسألة على نحو اعتذاري قبل أن يميزوا مع الكواكبي بين تسامح سياسي يقبلونه، وبين تساهل ديني غير مقبول. وقد استفاض فرح أنطون في تناول قضية فصل الدين عن السياسة.
وفي الوقت المعاصر أخذت قضية التسامح دفعة قوية، بعد ترسيخ الدساتير والقوانين للمساواة، على المستوى النظري، بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وتعزز قدرة المجتمع المدني في التأثير، وتبنيه لقضية «المواطنة»، والالتفات إلى ضرورة الحوار، على المستوى الداخلي بين الفئات والشرائح التي تشكل الدولة، وعلى المستوى الأكبر حيث حوار الحضارات.