هل كان الأمر يتعلق بدعوة لاحتساء بعض المشروبات فقط أم بداية مؤامرة يمينية متطرفة؟ في أوروبا هذه الأيام قد يكون من الصعب حسم الجواب. ولكن الأسبوع المنصرم أفادت وسائل إعلام نمساوية بأن العلاقات بين مارتن سيلنر وبرنتون تارنت كانت أكبر وأوسع. سيلنر هو الزعيم الأنيق لحركة «الهوية» النمساوية، وتارنت هو المتهم بتنفيذ هجومين على مسجدين في كرايستشرش، في نيوزيلندا. الرجلان تبادلا رسائل البريد الإلكتروني في 2018 بعد أن قام تارنت بالتبرع للحركة، وسيلنر بعث لتارنت رابطاً إلى صفحته على يوتيوب ودعاه لاحتساء الجعة في فيينا. وقد حجز تارنت فندقاً في فيينا، ولكننا لا نعرف ما إن كان قد ذهب إلى هناك بالفعل.
لماذا يُعتبر كل هذا مهماً؟ لأن سيلنر يمثل ظاهرة غريبة في المشهد السياسي الأوروبي: إنه الوسيط اليميني المتطرف. وخلافاً للنازيين الجدد قديماً، فإن منتسبي حركة الهوية لا يرتدون أحذية عسكرية طويلة، ولا يحلقون رؤوسهم، ولا يتربصون في الظل. ولكن لديهم مواقع جميلة على الإنترنت، وفيديوهات احترافية، ومنظمات رسمية في عدد من البلدان الأوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى جانب النمسا. وهم يلفتون الانتباه من خلال «حوادث» – مقاطعة عرض مسرحي يؤديه لاجئون وصب دم مزيف على الخشبة – بدلاً من السير والهتاف فقط. ويزعمون أنهم ليسوا عنصريين، وأنهم يحترمون كل الثقافات – ويشددون على أنهم لا يريدون سوى المحافظة على ثقافتهم. ولكن في صمت، يبقون على علاقات مع متطرفين مثل تارنت، بينما يخالطون سياسيي «حزب الحرية» النمساوي «اليميني المتطرف» الذي أضحى الآن واحداً من الأحزاب السياسية العادية والذي يُعد جزءاً من الائتلاف الحاكم النمساوي الحالي. وعملياً، يدفعون بأفكار عنصرية تآمرية من هامش الإنترنت إلى التيار السياسي الرئيسي – وليس في النمسا فقط.
وبالطبع فإنهم ينكرون أنهم يفعلون هذا. ففي فيديو أُنجز باللغة الإنجليزية (يذكر هنا أن المنتمين لحركة الهوية حريصون على التواصل مع نظرائهم العنصريين البيض الأميركيين)، يصف سيلنر نفسه بـ«الوطني»، ويتباهى بالريف النمساوي الجميل، ويتحدث عن حرية التعبير والهوية الثقافية. والآخرون ينفون أنهم يفعلون هذا أيضاً: فهذا هانز كريستيان شتراخه، زعيم حزب «الحرية» ونائب المستشار النمساوي، رفع دعوى قضائية لوقف تداول صورة له وهو يتناول العشاء مع عدد من منتسبي حركة الهوية. وقد فشلت الدعوة القضائية، ولكن «شتراخه» صُوِّر مؤخراً وهو يتحدث، من بين أشياء أخرى، حول كيف يمكن السيطرة على الصحافة النمساوية.
غير أن أفكار الحركة انتقلت إلى اللغة الرسمية لحزب «الحرية»، فانتبه عندما تسمع عبارة «الاستبدال الكبير»، التي استخدمها شتراخه في منشورات على فيسبوك: إنها خطة سرية، يُعتقد أنها من تدبير اليهود من أجل استبدال الأوروبيين البيض بالمسلمين، وتمثّل الأسطورةَ المركزية لمنتسبي «الهوية». وانتبه أيضاً عندما تسمع كلاماً عن «الدفاع عن أوروبا» من «الغزو»، وعن الحاجة إلى «إعادة الهجرة» (أو بشكل أقل تهذيباً، التطهير العرقي). فهذه أفكار حركة الهوية أيضاً وهي تنتشر بسرعة. وقد قام «معهد الحوار الاستراتيجي» في لندن بإحصاء الإشارات إلى «الاستبدال الكبير» على شبكة الإنترنت فوجد نحو 1.5 مليون على تويتر فقط. المعهد تعقب أيضاً مصطلح «إعادة هجرة»، الذي بدأ ينتشر في ألمانيا عقب اجتماعات بين حركة الهوية و«البديل من أجل ألمانيا»، الحزب اليميني المتطرف الذي يُعد الآن ثالثَ أكبر حزب في البرلمان الألماني.
كل هذا ليس شيئاً جديداً. جاكوب دايفي، مؤلف دراسة لـ«معهد الحوار الاستراتيجي» حول هذا الموضوع، قال لي إن المخاوف من «إبادة جماعية بيضاء» تعود إلى عدة عقود خلت. ولكن تكنولوجيات الاتصالات الجديدة، إضافة إلى التنسيق الدولي الجديد لليمين المتطرف، والمشهد السياسي الحالي – أزمة الهجرة والموجة الإرهابية – خلقت الظروف المثالية لبروزها.
إنني أشرح كل هذا لأنه يمثل أيضاً الخلفيةَ الخفية لعدد من القصص الإخبارية التي ظهرت مؤخراً. فـ«البيان» الذي نشره تارنت أشار صراحة إلى «عمليات غزو» من قبل المهاجرين. والمشتبه في قيامه بإطلاق النار في كنيس يهودي في بووي بولاية كاليفورنيا قال إنه يعتقد أن «نخباً يهودية عالمية» تتآمر سراً لتغيير التركيبة الإثنية للولايات المتحدة. والمشتبه في قيامه بإطلاق النار في كنيس بيتسبرغ قال أيضا إن منظمات يهودية تقوم بجلب «غزاة معاديين». والهوس برجل الأعمال اليهودي جورج سوروس، وهي خاصية تميز دعاية اليمين المتطرف في كل مكان من المجر إلى ألاباما، لها علاقة بهذا النوع من الأفكار. وعندما يتحدث الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني عن «غزو» المهاجرين، فإنهما يبعثان بإشارة ضمنية إلى حركة الهوية أيضاً.