لم يعد الأمر بحاجة إلى بحث لإثبات أهمية الجيوش الوطنية في الدول الحديثة. الأحداث الجارية في المنطقة العربية، منذ مطلع العقد الجاري، تُقدم دليلاً عملياً جديداً على أن أهميتها لا يصح أن تكون موضع نقاش أو خلاف. فعندما يفتقر أي بلد إلى جيش وطني قادر على حمايته، يصبح عُرضة لأخطار شتى. افتقار الشعب في مثل هذا البلد إلى الأمن والأمان ليس إلا أحد الأخطار المترتبة على عدم وجود جيش وطني، أو ضعف هذا الجيش، أو محاصرته على نحو لا يُمكّنه من أداء دوره. وفي غياب جيش وطني، يمكن أن يصبح البلد مرتعاً للإرهاب، أو نهباً لجيوش أجنبية، أو تحت رحمة مليشيات مسلحة تحوّل حياة الناس جحيماً، سواء تقاتلت أو تحالفت.
ويعد الوضع في ليبيا مثالاً بالغ الوضوح والدلالة على أهمية دور الجيش الوطني في مواجهة خطر استشراء المليشيات المسلحة. فرغم أن التدخل العسكري الأجنبي لم يستمر بعد إسقاط القذافي، فقد سعت دول أجنبية إلى دعم نفوذها بوسائل أخرى. واستدعت مصالح هذه الدول المحافظة على أمر واقع ارتبط بسيطرة عدد كبير من المليشيات المتطرفة في الغرب، بعد أن قضى الجيش الوطني على مثيلاتها في الشرق والجنوب.
ولذا، تعثرت جهود متوالية لحل الأزمة الليبية، وفشل ستة مبعوثين أمميين، وهو أكبر عدد من الوسطاء في تاريخ الأزمات الدولية والإقليمية (الخطيب، ومارتن، وهنري، وليون، وكوبلر، وصولاً إلى غسان سلامة). أخفقوا كلهم، تباعاً، في إيجاد صيغة للحل، بسبب مصالح المليشيات ومَن يحركونها. وساهم الاتفاق الذي تم التوصل إليه في الصخيرات في ديسمبر 2015، في تكريس الأمر الواقع الذي استهدف هذا الاتفاق -نظرياً- حلحلته، وأضفى شرعية على هيمنة المليشيات في غرب البلاد، عندما أتاح لها غطاءً كانت بحاجة إليه، وهو حكومة معترف بها دولياً، وتُسمى «حكومة الوفاق الوطني».
كان مفترضاً أن يعرف مَن وضعوا صيغة اتفاق الصخيرات أن الحكومة التي تخيلوها بدايةً للحل، ستكون أحد أهم العوائق في طريقه بسبب سيطرة المليشيات عليها، وعدم إعطاء مجلس النواب صلاحيات كافية تجاهها، رغم أنه الهيئة الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي. وأصبح في إمكان المليشيات في طرابلس ومصراته والزنتان أن تعرقل جهود الحل، وتُحبط أي تفاهم يتم التوصل إليه.
ولم يكن ممكناً أن يحدث هذا كله إلا لأن الجيش الوطني، الذي بُدئ في إعادة بنائه عام 2013، لم يُمكَّن من أداء دوره، بل فُرض حصار دولي على تسليحه، وطُبق عليه قرار مجلس الأمن رقم 1970 لعام 2011، الذي يمنع بيع الأسلحة وتوريدها إلى ليبيا، أي عومل كما لو أنه إحدى المليشيات المسلحة، رغم أن القوى الدولية التي فرضت الحظر وواصلته تعرف حقيقته.
غير أن إرادة قيادة هذا الجيش وأركانه، والدعم العسكري الذي لقيه في بنغازي ومدن شرق ليبيا منذ إطلاق عملية الكرامة في منتصف 2014، ساهم في تقليل تداعيات الحظر المفروض عليه. ولذا، فقد استمرت عملية إعادة بنائه، في الوقت الذي خاض المعركة تلو الأخرى ضد المليشيات الإرهابية.
كما ساعد تبني مجلس النواب هذا الجيش في تقديم دعم سياسي ومعنوي له، فواصل عملية الكرامة رغم صعوبة الظروف واستمرار التعنت الدولي تجاهه، إلى أن نجح في تحرير شرق ليبيا من المليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية. ثم انتقل إلى الجنوب مطلع العام الجاري، حيث كانت مهمته أسهل، فأكملها في وقت قياسي بكل المقاييس.
لذا، صار التحرك صوب الغرب، وفي القلب منه العاصمة طرابلس، المرحلة الأخيرة في عملية يرتبط فيها تحرير البلاد من المليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية، وإعادة بناء الجيش الوطني، ارتباطاً وثيقاً.
ورغم كل العوائق التي واجهت عملية إعادة بناء الجيش الوطني الليبي منذ البداية، فقد أتاح ارتباطها بتحرير البلاد من المليشيات فرصة أكبر لنجاحها. فانخراط جيش يُعاد بناؤه في أعمال عسكرية ذات أهداف وطنية جامعة يُتيح صهر مكوناته التي يكون بعضها جديداً، في بوتقة واحدة على نحو يجعله أكثر انسجاماً وتجانساً، ومن ثم أوفر قوة. كما يُزوده هذا الانخراط بخبرة قتالية حقيقية تفيد في اختصار الوقت اللازم لتطوره وبلوغه المستوى الذي يؤهله لأداء دوره في بناء الدولة بعد انتهاء عملية تحريرها.