استكمالاً للقضايا التي تمس وجود المجتمع والأمة في التاريخ، نتناول قضية أخرى، وهي تنمية الموارد الطبيعية والبشرية. فالأمة العربية لديها الثروات الطبيعية والسواعد والأراضي، وبإمكانها الاعتماد على ذاتها في الغذاء والكساء والدواء والسلاح.. لكنها ما تزال تصنف في عداد الشعوب السائرة في طريق النمو. فهي تستورد أكثر مما تصدِّر، وتستقبل المعونات أكثر مما تعطيها، كما تعمّها البطالة والأمية، ومعظم شبابها يريدون الهجرة إلى الخارج.. هذا فضلاً عن انبهار ثقافي وصل ببعض المجتمعات العربية أحياناً إلى وضع مشابه لذلك الذي تعانيه بعض الدول الأفريقية بافتقادها لغتها وثقافتها ومواردها.
أما القضية الأخرى، فهي حشد الناس وراء المشروع النهضوي القومي. فإسرائيل التي لا تزيد على ستة ملايين تقف متحديةً العربَ وهم ثلاثمائة وخمسون مليوناً. إسرائيل تجد امتدادها في يهود العالم البالغ عددهم أربعة عشر مليوناً فقط، بينما يقارب عدد المسلمين ربع سكان المعمورة من حيث الكم، لكنهم لا يمثلون نفس القدر من الأهمية والثقل من حيث الكيف.
المشروع النهضوي الإسلامي يحتاج إلى اجتهاد في المسائل الكبرى وليس في القضايا الجزئية، فيما تعم به البلوى وليس في الأشكال الشخصية ومعرفة الحلال والحرام والسؤال حول أشياء تركها الله مباحةً «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ»، إذ سأل عنها اليهود من قبل فحرّمها الله عليهم.
الاجتهاد إذن ينبغي أن يكون في القضايا الجوهرية التي تواجه المجتمع، وفي مقومات النهضة وشروطها، وأهمها الإنسان والتاريخ والأرض. مازال الغرب يزهو على العالم بأنه أعطاه مفهومين؛ الإنسان والتاريخ، مع أن الإنسان مذكور في القرآن الكريم الذي وضعه في مكانة مركزية، ووصفه في جانبيه الواقعي (الجدل، العجلة، الجزع، الهلع، الغرور، مناع للخير، اليأس، الظلم، الكفر، التقتير، الجهل، الخصومة، الطغيان.. إلخ)، والمثالي (التمني، السعي، البيان، الكدح، العلم، صاحب خلق عظيم، البر بالوالدين.. إلخ).
وطالما أن المسلمين لم يضعوا أنفسهم في مسار التاريخ، فليس من المفاجئ أن نرى الإصلاح لديهم وقد انقلب إلى سلفية، والنهضة وقد تحولت إلى سقوط. فالنهضة انتقال من مرحلة إلى أخرى عبر مسار تاريخي صاعد ومتقدم من الماضي إلى الحاضر. والمقاصد الكلية للشريعة كفيلة بأن تكون مشروعاً نهضوياً للفرد والجماعة. الدفاع عن الحياة ضد الموت والجوع والتصحر والعطش والمرض والبطالة، والدفاع عن العقل ضد الجهل والأمية والنقل والتقليد والحفظ، والدفاع عن الدين ضد النيل من المبادئ الإنسانية العامة (الحرية والإخاء والمساواة)، والدفاع عن العرض (أي الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان) ضد انتهاكه، والدفاع عن المال (أي الثروة الوطنية) ضد التبديد والسفه والاستهلاك الزائد.
ولا يكفي التنظير دون وضع آليات للتنفيذ، مثل تكوين جماعات للبحث العلمي ضد مشايخ الفضاء والإسلام السياسي والإعلامي، الذي يقوم على توسيع المحرمات وعلى «التصور الجنسي للدين». والعمل خير دليل على صحة النظر، والواقع خير برهان على صحة الفكر. الاجتهاد هو الذي يحقق مصالح الناس الكبرى، وهو يعبر عن الثقة بالنفس، والقدرة على المنافسة مع الآخرين دون تكفير أو استبعاد، ودون خوف من المحاولة. فللمخطئ أجر وللمصيب أجران.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة