سلّطت استقالة رئيسة الوزراء البريطانية الأضواء على صعوبات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكن أيضاً على حجم الانقسامات داخل حزب المحافظين الحاكم، كذلك داخل حزب العمال المعارض، وهو ما يعكس خصوصاً انقسامات غير مسبوقة داخل المجتمع بمختلف شرائحه. لعل الصدفة جاءت بإعلان تيريزا ماي عزمها على الاستقالة غداة انتخابات البرلمان الأوروبي التي ما كانت لتُجرى في بريطانيا لو أن مجلس العموم تمكّن من إقرار اتفاق «بريكست» الذي توصّلت إليه ماي مع الأوروبيين، فهذه الانتخابات شهدت صعوداً جديداً لأقصى اليمين، القومي والشعبوي، وتراجعاً للأحزاب التقليدية التي رعت الفكرة الأوروبية وعزّزت الاتحاد وحمته. وتكمن المفارقة في أن اليمين المناوئ لتلك الفكرة يستخدم إحدى أبرز مؤسساته، البرلمان الأوروبي، ليعمل على تفكيكه كأكبر تجمّع سياسي واقتصادي وثقافي يطرح نفسه كقوة عظمى بين القوى الأخرى.
لن تغيّر هذه الانتخابات المشهد العام للاتحاد الأوروبي، لكنها تحمل بذور تغيير زاحف ومتقدّم بوضوح في عشر من أصل ثماني وعشرين دولة. ففي إيطاليا والمجر أصبح اليمين القومي والشعبوي متصدّراً في الحكم، وفي ألمانيا والنمسا وهولندا بات له وجود قوي في البرلمانات، وحيث لم يبلغ عتبة المنافسة على المناصب العليا صار يشكّل الخيار الثالث الثابت للناخبين الذين يلجؤون إليه إمّا اقتناعاً، أو في معظم الأحيان لإنذار الأحزاب الرئيسية ومعاقبتها. وهذا ما تبدّى في بريطانيا، حيث برز في الانتخابات الأوروبية حزب «بريكست» الجديد الذي تأسس قبل بضعة أسابيع كردّ فعل على فشل «المحافظين» و«العمال» في التوافق على صيغة الانفصال عن أوروبا. لكن أقصى ما استطاعت هذه الظاهرة إثباته أن ثلث المجتمع فقط مؤيّد صلب لـ «بريكست» فيما يتوزّع الثلثان الآخران بين تأييد قوي للبقاء في الاتحاد الأوروبي أو لانفصال انتقائي جزئي.
تنفرد بريطانيا بكونها مارست منذ البداية علاقة حب - كره ملتبسة مع أوروبا وقاربت الانضمام إلى اتحادها بانقسامات أيديولوجية، وإن أربعة من رؤساء الوزارات أسقطتهم خلافات حول أوروبا والعلاقة معها، وجميعهم من حزب «المحافظين»، من مارجريت ثاتشر إلى خلفها جون ميجور، ثم ديفيد كاميرون وتيريزا ماي. وقد تمكّنت الأخيرة بتجربتها القصيرة من تضييق الخيارات بحيث إن أي زعيم يخلفها لن يجد أمامه سوى خيارين: إمّا الاندفاع بـ«المحافظين» في المدّ القومي- الشعبوي والخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، بما ينطوي عليه ذلك من تداعيات سيئة على الاقتصاد، لكنها تداعيات تنسحب أيضاً على الأوروبيين في المجالَين المالي والتجاري. وإمّا الموافقة على إجراء استفتاء آخر للتأكّد من نيات الناخبين إزاء «بريكست»، وهو ما يرفضه أقطاب «المحافظين» معتبرين أن استفتاء 2016 ونتيجته شكّلا فرصة تاريخية ينبغي ألا تفوّت.
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير خارجيته جان إيف لودريان أكثر من أطلق الإنذارات في الآونة الأخيرة. فالسياسات الداخلية لماكرون، الذي جسّد فشل اليمين واليسار وحقّق فوزاً ساحقاً على مرشحة اليمين المتطرف عام 2017، أثارت النقمة وأعادت ذلك اليمين إلى الواجهة. ومع اختلافات بسيطة تتشابه حالات فرنسا وألمانيا وبلجيكا، حيث تصاعد الاستياء الاجتماعي من السياسات الضريبية وتضاؤل فرص العمل ومن مقاربة مسائل الأمن والهجرة، وكلّها ملفات يستغلّها اليمين المتطرّف في حملاته التي أظهرت أيضاً أن هناك من يوظّف اليمين ويحرّضه على خوضها. إذ لم يفت «لودريان» أن يشير إلى أدوار أميركية وروسية وصينية في تغذية نزعات التفكّك في أوروبا. من هنا يبدو قادة «بريكست» في بريطانيا منسجمين مع ماثيو سالفيني في إيطاليا وفيكتور أوربان في المجر وغيرهما في تشيكيا وبولندا، إذ شكّلوا الجسور التي تغري القوى الكبرى الأخرى باختراق الاتحاد الأوروبي وإضعاف تماسكه.
رغم أن صعود اليمين سبق وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لكن الفورة غير المسبوقة لهذا اليمين والعمل على تأصيلها ينسبان إليه، فمن اللافت مثلاً أن مستشاره السابق ستيف بانون، وهو من عتاة اليمين المتعصّب، أصبح شبه مقيم في أوروبا وضيفاً دائماً في فعاليات الأحزاب المتطرّفة.