كأنما ما اختزن في النفوس، أو كُبِتَ وقُمِعَ طويلاً يتفجر اليوم في جهات الأرض الأربع انتفاضاتٍ أو ثوراتٍ أو انزواءاتٍ أو أهواءَ أو شغفاً أو غضباً أو انفعالاتٍ في سياقاتٍ جماعية، تلتقي هنا وتفترق هناك في مقاصدها وأشكال تعبيرها وتحركاتها وعُنفها.
كل هذه الأحداث الراهنة من سوريا إلى العراق إلى السودان والجزائر وليبيا وإيران وفرنسا والمجر والولايات المتحدة الأميركية تتقدم تقدماً مجتمعياً وشعبياً وشعبوياً ولا واعياً ولا عقلانياً ولا مضبوطاً بل مُفلتٌ على عواهنه وغرائزه.
إن هذه الظواهر ليست جديدة طبعاً وطالما وُجدت بشكلٍ أو بآخر على مستوياتٍ إيديولوجية أو دينية أو طائفية أو عاطفية أو عنصرية.
ونتذكر هنا الثورة الفرنسية وجنونها وجلّادها «روبسبيير» والثورة البلشفية وعقلها الجهنمي لينين، والثورة الثقافية الصينية وقائدها ماوتسيتونج، والانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية وفي الأنظمة العربية، وسواها من دون أن ننسى مجازر روندا وإسرائيل.
لكن على الرغم من ذلك، فإننا إذا أمعنّا النظر عن كثبٍ نجد أن هذه التوجّهات بدأت تنتقل من مكانٍ إلى آخر منذ عدةِ أجيالٍ كأن العقل الذي كان يُمسكُ من هيجانها، أو يخفف من غُلوّها أو يستوعبها، أو كأن الوسائط الاجتماعية والديمقراطية وأحزابها ومبادئها انتقلت اليوم إلى المرتبة الثانوية على صعيد رجال السياسة والاقتصاد والثقافة الذي كان يفتري أنهم في مقدمة العقلانيين.
كل هذه الحقائق التنويرية الماضية تبدو الآن موضع نقدٍ وشكٍّ وتجاوز.
فلا الديمقراطيات باتت تحمل حلولاً، ولا التقدم (خلعت أسطورة التقدم التي سادت القرنين التاسع عشر والعشرين، وكذلك فلسفة الصيرورة) ولا الأفكار ولا المرجعيات التاريخية، فالخوف من المستقبل قد يدفع إلى اليأس، لكنه اليوم دفع إلى المشاعر المتطرفة والعصبية وعدم الثقة، وإلى الهويات المنغلقة والشعبوية، أي ما يسمى زمن ما بعد الحقيقة.
فالنوازع البدائية والعفوية والفطرية المنتزعة من جنون العزولات والرعب من الآخر ألغت كل ما يمكن تسميته منطقاً أو حساباً أو مراجعةً أو فكراً نقدياً أو كل أداة من أدوات المجتمع.
فالعالم كأنه صار كله اليوم في الشوارع، (أو في الكانتونات) والشارع حلّ محل المنصات والمقامات: بل إن الشارع بات يصنع الحرّية المباشرة أو الأوطان أو العدالة الآنية.. لم يبقَ لهؤلاء سوى أرصفةٍ وطرقات يؤمُّونها أو يحجّون إليها بالملايين.
هنا الصرخة المدوية هناك الأهواء الساخنة، هنا المطالب التي ترفض كل وسيط بينها وبين السلطة..
إنه زمن استهداف الأنظمة بالشعب- المرجعية الأولى والأخيرة (بحسب الفلسفة اليونانية)..«فليسقط هذا النظام كله بمسؤوليه وأفكاره وأحزابه وآلياته وهيئاته»، ذلك أن الوسائط التي كانت جسراً بين منصات الأنظمة العليا والناس قد سقطت، بل إن الأحزاب بتواريخها وأفكارها لم تعد موقع ثقة وإيمان وملجأ.
لم يعُد لهذه الموجات المتضاربة الهوجاء قائدٌ أو مُرشدٌ أو زعيم كأن كل السفن انفلتت في عُرض البحر بلا رُبانٍ ولا وجهة سوى ما تُمليه المشاعر الفائضة.
لكن كيف يمكن مقاربة هذه الظواهر الآتية من حيث لم ينتظرها أحد، حتى الآن ما زال الإرث الفلسفي (أين ثارت الفلسفة التنويرية وفلاسفتها في أوروبا وأميركا)، مقصراً بمنهجيته وأدواته التقليدية عن اختراق مفاهيم هذه الأحداث ومحركاتها، بل اكتفى بانتقاد الأهواء والمشاعر الجامحة، مفضلاً الحياة تحت سقف العقل.
والعلوم الإنسانية على أنواعها حاولت التقاط الآليات والتحديدات الثقافية لكن مهملةً النوازع الباطنية والنفسية والعاطفية.
فهل ما زال الوقت مبكراً لفهم عمق هذه الظواهر (بدلاً من البقاء على هوامشها)، وهل يجب الانتظار حتى يشرع المثقفون والمفكرون وعلماء النفس والانتروبولوجيون والسوسيولوجيون لمراجعة وافية من أسئلة مفتونة بالغموض؟ لكن يبدو أن جماعاتٍ من المثقفين حاولوا مؤخراً سد الفراغ ففي كتابٍ صدر حديثاً في باريس بعنوان «الأهواء الاجتماعية» شارك فيه عشرات الكتّاب والباحثين، تحت إدارة غلوريا أوريجيس، محاولة للتوغّل بهدوءٍ وبأنماط وجهات ومستويات متعددة، لتفكيك هذه التحركات (ولا أقصد على منهج ديريدا) عنواناً عنواناً من النبذية والرفضية إلى الكراهية إلى الفوبيات مروراً بالشغف والحب ومعاداة الإسلام والسامية والكرامة واحتقار المرأة والحس الوطني والراديكالية والهويات والقيم المقدسة.
لقد رتبوا الظواهر وقسموها في عناوين محددة كما أشرنا، ولكن ومن خلال الاطلاع على أجزاء ميسرة من الكتاب بدا من السذاجة أن يكون هؤلاء التقطوا كل خلفيات الأحداث المعاصرة المتجاوزة وخارج أُطر السوسيولوجيا والفلسفة الفاشلة.
ولكن لا بد من القول وبرغم استحالة هؤلاء تقديم أي حل أخير ونهائي تمكنوا من اكتشاف إشارات ومفاتيح عديدة قد تكون مداخل إلى اكتشافات جديدة.