يبدو التاريخ الإنساني سلسلة من الأمم التي تصعد وتزدهر وأخرى تفشل وتفنى أو تذوب في أمم أخرى أقوى منها، وبطبيعة الحال فإن الحاضر والمستقبل يتشكلان وفق القاعدة نفسها، صعود أمم وانحسار أخرى! في تغير المناخ ضمرت أمم لم تقدر على التكيف والمواجهة، وفي تطور الزراعة صعدت الأمم التي تشكلت حول المناخ المعتدل والماء الوفير، وفي التجارة والتبادل بين أنحاء العالم صعدت الأمم ذات المهارات التجارية والمواقع الاستراتيجية والمهمة لحركة القوافل والمدن، وفي الكشوف الجغرافية البحرية صعدت إسبانيا والبرتغال في القرن السادس عشر، لكن تفوقت عليهما القدرات التجارية والاستثمارية لبريطانيا وهولندا، وتقدمت فرنسا معتمدة على الزراعة والثقافة،.. وهكذا فإن التاريخ الإنساني هو القدرة أو الفشل في التقاط الفرص ومواجهة التحديات في بناء القوة الاقتصادية والسياسية للأمم!
تشكلت الحضارة المعاصرة عندما استقل العلم عن رعاية الحكام والأغنياء والمؤسسات الدينية وصار جزءاً محركاً للاقتصاد والازدهار، صعدت الصناعة ومعها طبقات ومؤسسات ومدن جديدة، صارت قوة الأمم وازدهارها تعتمد على الطاقة والمعرفة والتكنولوجيا والتنظيم الاجتماعي والسياسي المنشئ للرضا والتماسك والمبادرة والتنافس والإبداع، وصارت القيادة للطبقة الوسطى وللعلماء والمبدعين والمهنيين المتقدمين، واختفت الطبقات الأرستقراطية والإقطاعية والامبراطوريات والمدن التي تشكلت حول الموارد الطبيعية. ويتشكل اليوم عالم جديد ينشئ موارد وتحديات وفرصاً تغير على نحو جوهري في الحضارة والقوة «الصناعية» التي بدأت منذ القرن السابع عشر، وازدهرت في القرن الثامن عشر.
قامت الثورة الصناعية على محاكاة القوة الجسدية بأضعاف مضاعفة، هي ببساطة التكنولوجيا التي تقوم بما يعمله الإنسان لكن بسرعة مضاعفة وقوة وكميات مضاعفة، ولكن تكنولوجيا المعرفة هي محاكاة عقل الإنسان، وعندما بدأ الإنسان منذ منتصف القرن العشرين ينشئ آلات قادرة على معالجة المعلومات معالجة منطقية، بتحويل النصوص والصور والأصوات إلى «فوتونات وإلكترونات» ثم تنظيم وتحليل هذه المعلومات كما يفعل عقل الإنسان، صار في مقدور الأجهزة أن تحل محل الإنسان في أعماله ومهاراته المعرفية، كالمحاسبة والرياضيات والتدقيق والترجمة والمراقبة وتحليل المعلومات والإحصاءات وبقدرات وسرعات هائلة وتسيير المصانع والسيارات والطائرات والبواخر والقطارات، تغيرت المؤسسات والأسواق والأعمال والمهن والموارد والمصالح والفرص والتحديات والقوة والضعف، والقيم والعلاقات الاجتماعية، وبطبيعة الحال فإن الأمم تواجه السؤال مرة أخرى، ما القوة والازدهار؟ وما الضعف والفشل؟
كما المطبعة فإن منظومة الحوسبة والإنترنت و«الروبتة» والطابعات ثلاثية الأبعاد والهندسة الجينية تنشئ متوالية معقدة لم تخطر على بال مخترعيها، والحال أن معظم التقدم العلمي والتكنولوجي لم يكشف لأصحابه عن التغيرات التي تحيط به، ولذلك فإن جزءاً كبيراً من قوة الأمم وازدهارها يكون في القدرة على التنبؤ والاستشراف، وهكذا فإن مستشرفي المستقبل يشكلون في هذه المرحلة الانتقالية والغامضة والمرتبكة والمختلفة عن سياقها الماضي الفئة الرائدة للأمم بجميع مكوناتها، السلطات والمجتمعات والأسواق والأفراد، وفي ذلك فإن قوة الأمم اليوم وفي المستقبل تعتمد على الإبداع والخيال؛ لأن الإحاطة بالمستقبل بما هي مهارات التوقع والتقدير والتخمين تحتاج إلى مبدعين في كل المجالات والأعمال والتخصصات.
صحيح بالطبع أن كثيراً من المهارات والمعارف والمستقبلية تحولت إلى عمليات معرفية منضبطة يمكن تعليمها والتدريب عليها في الكليات والمؤسسات، مثل الاستقراء وإدارة المخاطر وتحليل الوقائع، لكن المنتج النهائي للتقدير المستقبلي وتصميمه والمساهمة فيه مستمد من قدرات ومهارات إبداعية وتخيلية عامة يجب أن يتعلمها جميع الناس على مختلف أعمارهم ومواقعهم وأعمالهم، وهي مهارات ومعارف وملكات ليست محددة أو منضبطة أو منظمة، لكنها محصلة منظومة واسعة من التعليم والتدريب والعمل والتفكير النقدي، وتأتي أيضاً على تخوم وتداخلات العلوم والمعارف، أو على نحو غير مباشر في تعلم الفلسفة والفنون والآداب والموسيقا، وبطبيعة الحال، فإنها تنشأ وتتشكل في بيئة من الحريات والكرامة والتسامح والتنوع والاستماع العميق والتعاطف والاهتمام والحياة الكريمة والتغذية الملائمة والصحة الجيدة وأسلوب الحياة المتقدم في السكن والنظافة والسلوك الاجتماعي وإدارة الوقت.
لقد رفض الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت في عام 1803 عرضاً تقدم به الميكانيكي الإنجليزي روبرت فولتن في استعمال البخار في تحريك عجلة السفن، ولم يجد برغم ذكائه فائدة للاختراع لأنه لم يلاحظ له استخداماً حربياً، لكن التاريخ تغير رأساً على عقب عندما وظف الإنجليز الاختراع في بناء وتسيير السفن والقطارات البخارية، وبحلول منتصف القرن التاسع عشر انخفض إلى الخمس تكلفة إنتاج الأقمشة القطنية، وتضاعف الإنتاج البريطاني خمسين ضعفاً، لكن ما لم يكن متوقعاً أو يخطر بالبال هو نشوء الأسواق وصعودها، ثم التحولات السياسية والديمقراطية التي اجتاحت العالم، وأصبحت لندن مركزاً للمخترعين والمجددين والمكتشفين والفنانين والصيارفة، وأيضاً المثقفين من ديكنز إلى ماركس ودارون!