ظهر لفظ «التسامح» في السياق الغربي خلال القرن السادس عشر بأوروبا، وتم تداوله باللغة اللاتينية، على لسان وبأقلام الأدباء الكلاسيكيين، على أنه يعني «التحمل السلبي والقبول». وفي النصف الثاني من القرن المذكور بدأ المفهوم يعني «السماح المتصل بالحرية الدينية»، ليطرح القديس توما الأكويني الأسئلة الجوهرية في تلك الآونة: هل نتسامح مع غير المؤمنين؟ وهل يمكن أن نسمح بوجود ديانتين أو أكثر أو بالأحرى: هل نتسامح معهما في مملكة مسيحية واحدة؟ وكان اللاهوتيون يفضلون في البداية «السماح» بمعنى «إعطاء الإذن» على «التسامح»، ونبه بعضهم إلى أن السماح لا يعني بالضرورة تأييد ما عليه أصحاب الأديان المغايرة.
وأخذ المفهوم يرتبط وقتها بنقاش حول «العودة إلى الضمير» و«الرجوع إلى الكتاب المقدس» وقضية «الروحانية الصوفية»، ليأخذ بعدها طريقه إلى الانتقال من التسامح إلى الحرية الدينية، ومنها إلى تعبير وتدبير يضمن التسامح الأهلي والسياسي.
ومثلت كتابات بيير باييل (1647 - 1706) نقطة تحول مهمة في هذا الاتجاه، إذ جاءت لتعطي مسألة التسامح دفعة قوية، حيث جعله شاملا كل العقائد والمذاهب، وشرطه ألا يخل صاحب معتقد مخالف بالنظام العام، ولا يكون من رقيب عليه في هذا، ولا معيار لقياس التزامه، سوى ضميره، أو ما أسماه «نور الضمير». أما جون لوك فقد استثنى من تسامحه الملحد والكاثوليكي والمسلم، كما تقدم. فالأول في نظره لا ثقة فيما يقسمه من يمين، والثاني ولاؤه لسلطة خارج الدولة التي يعيش في ظلها، والثالث لا يعيش تحت حكم دولة مسيحية. لكن فصل لوك الحاسم بين الدين والدولة، وبين مجتمع السياسة ومجتمع الإكليروس، قد أفاد قضية التسامح.
وقبل الثورة الفرنسية كان موضوع التسامح مرتبطا بسبل التعايش بين الكاثوليك والبروتستانت، والتي كانت قد انزلقت إلى حالة بائسة. وبعد الثورة الفرنسية صار التسامح متعلقا بفصل الدين عن الدولة. أما في التجربة الأميركية فقد ارتبط بمنع الدولة من التدخل في الشأن الديني استهدافاً أو استعمالاً أو استغلالًا.
وقد كانت فكرة التسامح في السياق الغربي هي المخرج من الحروب الأهلية التي استمرت طويلا بين المذاهب المسيحية، ثم لم تلبث أن صارت هذه الفكرة قيمة مدنية مناطها الحرية الفردية. ففي إطار البحث عن حلول فلسفية ومعرفية ومجتمعية للاختلافات التي كانت تعصف بالمجتمعات الغربية، تم نحت وبلورة مفهوم التسامح كإجابة بديلة للاختلافات العقدية والسياسية.
وتأثر «فولتير» في نظرته إلى التسامح بحضور الرأي العام إلى المشهد، بعد أن كانت هذه المسألة ذات طابع نخبوي. وساهم هذا في انتقال التسامح إلى الإقرار بمشروعية وحيوية وأهمية «التعددية الثقافية»، ليتحول من قضية دينية إلى قضية ثقافية، يسعى من يتبنونها إلى الإجابة عن سؤال مهم هو: كيف تتعايش الثقافات بما فيها الأديان؟
وقد جاء الاعتراف بالتنوع الثقافي بوصفه مكونا أساسيا للحقوق الإنسانية ليرسخ قضية التسامح، وهو إن كان ظاهرة جديدة، فإن مساره يعود إلى زمن بعيد، لكن صوته كان غير مسموع وسط النزاعات والصراعات، وبدا أن هناك دوما ما يميل إلى إخفاء ذاكرة زمن كانت فيه قضية التعدد الثقافي مقموعة، تواجه رفضا في الاستماع إليها.
وجاء الفيلسوف الفرنسي «إدجار موران» ليربط بين التسامح والنظام الديمقراطي، من خلال التزام الدول بضمان حرية التعبير عن المعتقدات الدينية، والتصورات الاجتماعية، والأفكار الفلسفية، والاتجاهات السياسية، شرط ألا تؤدي كل هذه إلى إشاعة الاضطراب والفوضى في المجتمع. وكذلك من خلال الفصل بين السلطات، وإقامة العدل.
لكن الجدل الغربي حول قيمة «التسامح» والرؤى المرتبطة بها، لم يحسم بعد، فرغم إيمان الجميع بأهميتها، إلا أنهم يتساءلون حول حدودها، ومدى الشعور بها. فالفيلسوف الأميركي «جون رولز» أتى في ركاب تناوله لمسألة العدالة على طرح سؤال جوهري هو: هل ينبغي التسامح مع غير المتسامحين؟ وهل يجوز لهؤلاء أن يتذمروا عندما لا يجري التسامح معهم؟ وهل للجماعات أو الحكومات المتسامحة الحق في عدم التسامح مع غير المتسامحين؟ وهنا أجاب بأنه حين لا يتهدد تطبيق الدستور العادل فمن الأفضل التسامح مع غير المتسامحين.
*روائي ومفكر مصري