أحد الأهداف الأساسية للرئيس ترامب هو إصلاح اختلال الميزان التجاري للولايات المتحدة مع الصين، ذلك أن العجز فيه تفاقم ليصل إلى نحو 400 مليار دولار سنوياً في عام 2018. وعلى سبيل المقارنة، فقبل ثلاثين عاماً كان ثمة حوالي 3.5 مليار دولار من الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، ومثلها من الولايات المتحدة نحو الصين. أما اليوم، فقد انفجر حجم هذه الصادرات وتضاعف، ولكن على حساب الولايات المتحدة.
وتُعد شركة «هواوي» إلى حد ما رمزَ هذه الشراسة التجارية الصينية في عيني ترامب. ولهذا قرر منع الشركات الأميركية من تزويدها بمكونات، ومنعها من تطوير شبكة اتصالات الجيل الخامس «5 جي» على التراب الأميركي، متهماً إياها بتهديد السيادة الأميركية.
وتُعد «هواوي» عملاق التكنولوجيات الجديد، وبطلا اقتصادياً وطنياً للصين. فهي تمثّل بالنسبة لبكين مصدر فخر وربح. وترامب يرغب في خنق ربحيتها عبر حرمانها من الوصول إلى السوق الأميركي، ومن الرقاقات والمكونات الإلكترونية الأميركية حتى ينصرف المستهلكون في العالم كله عن منتجاتها مخافةَ ألا تحافظ على قوة أدائها.
وعلى المدى القصير، ستكون لدى «هواوي» بكل تأكيد مشاكل في الحصول على بعض المكونات ويتوقع أن تعاني جراء ذلك. لكن على المدى المتوسط إلى الطويل، يمكن أن تصبح الولايات المتحدة في وضع صعب، لأن «هواوي» والشركات الصينية الأخرى ستكون قد انصرفت عن الموردين الأميركيين من أجل إيجاد آخرين. وقد أعلنت الشركة الصينية منذ بعض الوقت إطلاق نظام تشغيل خاص بها. وبالتالي، فإن الحظر المفروض على «هواوي» يمكن أن يؤدي إلى تسريع السعي وراء استقلالية صينية عن منظومة الاتصالات العالمية التي تتحكم بها واشنطن.
بيد أن المواجهة التجارية بين البلدين، إن تواصلت واحتدت، قد تتسبب في كثير من الخسائر، ليس فقط للبلدين اللذين يحتاجان لبعضهما بعضاً، ولكن أيضاً بقية العالم. والواقع أنه يمكننا منذ الآن رؤية القلق الكبير الذي ينتاب الأسواق المالية. لكن يحتمل أيضاً أن يتصرف ترامب ك«مفاوض حاذق». فهو يتعمد التصعيد من أجل إخافة شريكه (وخصمه)، ثم إيجاد صفقة تلائمه في النهاية.
بيد أن مصدر القلق الأكبر للأميركيين، سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين، هو رؤية الصين تتدارك الولايات المتحدة ثم تتجاوزها، وهو ما يبدو أنه اتجاه تاريخي لا مفر منه، بالنظر إلى معدلات نمو الصين ومعدلات نمو الولايات المتحدة. وبرغم أن الاقتصاد الأميركي بصحة جيدة اليوم ومنذ عشر سنوات، فإنه يسجل معدل نمو أقل من معدل نمو الصين.
إنه «فخ ثوسيديديس» الشهير: فهذا المؤرخ الإغريقي الذي كتب تاريخ الحرب البيلوبونيسية، أشار إلى أن المواجهة العسكرية بين اسبرطة وأثينا أصبحت حتمية ولا مفر منها، منذ أن رفضت اسبرطة قبول تنامي قوة أثينا.
وإذا أسقطنا مفهوم «فخ ثوسيديديس» على العلاقات الصينية الأميركية، فإن الفكرة العامة كالتالي: هل تكون ثمة بالضرورة مواجهة عندما لا يقبل الرقم 1 (القوة المهيمنة) تنامي قوة الرقم 2 (القوة الصاعدة)؟ وهل ما حدث بين اسبرطة وأثينا سيحدث بين للولايات المتحدة والصين؟ الاختلاف هو أنه بعد العهد الاسبرطي ظهر الردع النووي، وهذا الأخير يفترض أن يحول دون تطور خلاف تجاري أو حتى حرب تجارية إلى مواجهة.
ما نلاحظه حالياً هو أن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة تفنّد فكرة «التجارة الهادئة»، أي فكرة أن التجارة بين بلدين ستؤدي إلى تهدئة علاقاتهما.
وإذا جاز لنا أن نقول إن ترامب وضع الملف الصيني على واجهة المشهد، وإنه يتحدى الصين على الصعيدين التجاري والاقتصادي، فإنه بكل وضوح يرغب في جعل الخلاف الصيني الأميركي مرئياً أكثر، وفي تقديمه على الأجندة العامة أكثر مما فعل الرؤساء الأميركيون السابقون. فثمة هذا الشعور بالقلق الذي يعزى إلى وضعِ تداركٍ وتجاوزٍ ممكنين للولايات المتحدة من قبل الصين، وهنا أيضاً نقع في «فخ ثوسيديديس»: ذلك أن القوة الكبرى لا تحب أن يتم تداركها وتجاوزها.
وفي كتاب الخبير الجيوستراتيجي الأميركي غراهام أليسون، «الحرب مصيرها»، الذي يشير إلى فكرة «فخ ثوسيديديس»، يدرس المؤلف 16 حالة تاريخية لتدارك الرقم 1 وتجاوزه من قبل الرقم 2، وفي 12 حالة منها أدى ذلك الوضع إلى الحرب. ولهذا، دعونا نأمل أن يحول الردع النووي دون هذه الحالة الـ17 للتجاوز.

*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية -باريس