دائماً ما تمثل الانتخابات في كل مكان فرصة للجميع كي يستخلصوا من نتائجها ما يحلو لهم. لكن انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في الأيام القليلة الماضية، قدمت طائفة كبيرة غير معتادة من النتائج التي أقام عليها عدد كبير بشكل غير معتاد من الناس استنتاجاتهم. فمن أرادوا إثبات افتراض الصعود الذي لا يمكن تفاديه لأقصى اليمين يستطيعون أن يجدوا أمثلة تؤيد هذا. ومن يعتقدون أن أوروبا ستقاوم هذا الصعود يمكنهم أن يجدوا أيضاً أمثلة تؤيد هذا. لكن ماذا لو كان كلاهما على صواب؟
السياسية، مثل الطبيعة، لكل فعل فيها رد فعل. وعلى امتداد القارة، صعدت أحزاب أقصى اليمين والقوميين والشعبويين وأحزاب سكان البلاد الأصليين التي تتبنى كلها لغةً مناهضة للوحدة الأوروبية وأحياناً عنصريةً، وأصبحت هذه الأحزاب أعلى صوتاً وأكثر بروزاً ونجاحاً. وكما كتبت عدة مرات، فإنهم يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي الجديدة لنشر نظريات المؤامرة التي تثير غضب الناس وخوفهم ويستغلون هذا الغضب والخوف. لكن مع صعودهم إلى الصدارة، تنامى أيضاً رد الفعل عليهم. وكما كان متوقعاً، كانت أحزاب الليبراليين والخضر من الرابحين الكبار أيضاً. فقد أدى صعود اليمين المتطرف إلى تحفيز ناخبي أحزاب الليبراليين والخضر وحفّزهم أيضاً إيمانهم بأن الأحزاب التقليدية المهيمنة لا تستطيع مواكبة هذا التحدي الجديد وتحديات أخرى كثيرة.
والواقع أنه لو كان هناك خاسرون حقيقيون، فإنهم أحزاب يمين الوسط من الديمقراطيين المسيحيين ويسار الوسط من الديمقراطيين الاشتراكيين، أي أولئك الذين فشلوا في التقاط مزاج اللحظة وفي تعديل استخدام مواقع التواصل الاجتماعي وتغيير وجهة نظرها. لقد اعتادت هذه الأحزاب أن تهيمن على البرلمان الأوروبي ومن ثم على مؤسسات الاتحاد الأوروبي وكفى. ولذا يشعر كثيرون حالياً بالقلق من أن ينتهي بنا الحال إلى اتحاد أوروبي لا يمكنه اتخاذ قرارات بسبب كثرة فصائله.
على أية حال، هناك وجه آخر لهذه المسألة. فالبرلمان الأوروبي سيصبح الآن مكاناً لصناعة السياسات الحقيقية، حيث سيجري إبرام صفقات ويحتدم الجدل أيضاً. هناك الآن قضايا مثل البيئة والهجرة التي تمثل اهتماماً مشتركاً على امتداد القارة، وهي تحتاج إلى حلول على امتداد القارة، والأوروبيون يعلمون هذا فيما يبدو. وليس مصادفةً أن ترتفع مشاركة الناخبين بأكثر من 10? في الانتخابات في إسبانيا وبولندا وألمانيا ورومانيا والمجر ودول أخرى، لأن الشعوب أدركت أن أصواتها مؤثرة بالفعل. وليس كل دولة يدور فيها الجدل نفسه، لكن قضية وحدة أوروبا في كل دولة كانت شقاً مهماً.
ورغم كل شيء فأوروبا تتحول إلى فضاء سياسي واحد. فاليمين المتطرف في إيطاليا يستنسخ آليات عمل اليمين المتطرف في فرنسا. والخضر في فرنسا يراقبون الخضر في ألمانيا. والجميع يراقب انتخابات الآخرين للتعلم منها. والمتشككون البريطانيون في الاتحاد الأوروبي نشروا تغريدات تحتفي باحتجاجات السترات الصفراء في فرنسا. والفرنسيون المؤيدون للاتحاد الأوروبي تهكموا من جانبهم على أزمة «البريكسيت». لكن أحداً لم يفز في الواقع. بل تتغير السياسة بسرعة شديدة مع ظهور أحزاب جديدة وقضايا جديدة ومشاعر جديدة تهيمن على الساحة. وربما تكون هناك فترة لا تستطيع فيها المؤسسات السياسية مسايرة الأوضاع، لكنها ستضطر إلى هذا في نهاية المطاف.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوس وبلومبيرج نيوز سيرفس»