يعيش حالياً أكثر من نصف سكان العالم في المدن، مع التوقع بأنه بحلول عام 2030 سيبلغ عدد سكان المدن نحو خمسة مليارات نسمة. وهو ما يتوافق مع التقديرات السابقة للأمم المتحدة بأنه مع نهاية العقد الأول من القرن الحالي، سيصبح أكثر من نصف أفراد الجنس البشري من سكان المدن. وعلى ما يبدو أن هذه الظاهرة لن تتوقف أو حتى تتراجع خلال الأعوام والعقود القادمة، حيث تشير التقديرات إلى أن النمو السكاني البشري حتى عام 2030، والذي يقدر بأكثر من مليار شخص خلال العقد القادم، سيقع جله ومعظمه في المدن.
ويحمل مثل هذا التحول الديموغرافي، الذي بدأ بالفعل قبل زمن ليس بالقصير، في طياته تحديات ومخاطر صحية كثيرة، تتعلق بتوفر إمدادات مياه الشرب النظيفة، وحجم التأثيرات السلبية على عناصر البيئة الطبيعية داخل المدن والمناطق المجاورة لها، وكذلك زيادة حوادث العنف ومعدلات الإصابات البدنية لأسباب مختلفة. وتكتسي أيضا الحياة داخل المدينة أهمية صحية خاصة، بسبب انتشار عوامل الخطر المؤهلة للإصابة بالأمراض غير المعدية، مثل العادات الغذائية السيئة، وزيادة معدلات استهلاك التبغ والكحوليات، ومحدودية النشاط البدني والرياضي، وهي عوامل معروف عنها تسببها في الإصابة بالسمنة، وداء السكري، وأمراض القلب والشرايين، كالذبحة الصدرية، والسكتة الدماغية، وارتفاع نسبة الوفيات المبكرة بوجه عام.
وتندرج أمراض التمدين تلك لحد كبير، ضمن ما أصبح يعرف في عالم الطب بأمراض الثراء أو أمراض الأغنياء، التي تضم طائفة متنوعة من الأمراض الأخرى، مثل الأمراض السرطانية، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض المناعة الذاتية، والربو الشعبي، وإدمان الكحوليات، والاكتئاب، وطيفا آخر من الأمراض النفسية. وتتشابك العلاقة بين بعض تلك الأمراض، بحيث يصبح بعضها سبباً أو نتيجة لبعض آخر مثل السمنة التي تنتج جراء الإصابة ببعض الأمراض، وتتسبب هي نفسها في مجموعة أخرى. والملاحظ أن الاتجاه الحالي هو نحو تفاقم أمراض الثراء، وخصوصاً في الدول الصناعية بسبب زيادة متوسط العمر والاعتماد على تقنيات الرفاهية بشكل أكبر، وزيادة أعداد قاطني المدن. وإن كانت أمراض التمديُن تختلف عن أمراض الأغنياء، في كون عبئها الأكبر يقع في الواقع على كاهل الفقراء من سكان المدن، الذين بالإضافة لإصابتهم بأمراض الأغنياء بسبب حياتهم في المدن، نجد أنهم أيضاً أكثر عرضة لقائمة أطول وأكثر تنوعاً من الأمراض.
والمؤسف أن القوى الرئيسية، والمحددات الاجتماعية، خلف هذا الوضع الصحي السلبي للحياة في المدن وخصوصاً بين فقرائها مثل تطور وكفاءة البنية التحتية، وتوزيع الدخل، والمساواة في فرص التعليم والتوظيف، تعتبر في غالبيتها عوامل تخرج عن نطاق نشاطات وسلطات نظم الرعاية الصحية، مما يجعل محاولات الاعتماد على هذه النظم في مواجهة الوضع الصحي داخل المدن، محاولات فاشلة في غالبيتها. وفي الوقت نفسه نجد أن مجالاً آخر مثل مجال التخطيط العمراني أو تخطيط المدن، يمكنه أن يساهم بشكل أكبر وأكثر فعالية في مواجهة المشاكل الصحية لقاطني المدن، من خلال توفير الأماكن العامة لممارسة النشاط البدني، أو الاستثمار في وسائل النقل العامة مما يشجع على ممارسة السلوكيات الصحية، الأكثر أمناً في الوقت ذاته. ويمكن أيضاً لمجال الممارسات الحكومية المتعلقة بحجم الاستثمارات في البنية التحتية مثل توفير مياه الشرب النظيفة ونظم الصرف الصحي الفعالة، أو إصدار التشريعات الكفيلة بالحد من استخدام التبغ، أو رفع مستوى النظافة والسلامة في قطاع المطاعم والصناعات الغذائية، أن يحقق تحولاً ملموساً في رفع مستوى البيئة الصحية التي يتوقع أن تعيشها الغالبية من أفراد الجنس البشري في السنوات والعقود القريبة المقبلة.
وبناء على خلفية هذا الواقع الديموغرافي الحالي، وانطلاقاً من التوقعات المستقبلية بزيادة نسبة سكان المدن من إجمالي سكان العالم، ظهر مصطلح أو مفهوم المدن الصحية (Healthy City)، والذي أصبح يستخدم في مجالي الصحة العامة والتخطيط العمراني أو الحضري، للتعبير عن العلاقة بين البيئة المدنية والسياسات العامة وبين صحة الإنسان. ويعتمد هذا المصطلح أو المفهوم في تعريفه على مبادرة منظمة الصحة العالمية التي حملت اسم «مدن وقرى صحية»، والذي ينص على أن المدن الصحية هي تلك التي توفر وتطور بشكل دائم ومستمر للبيئات الطبيعية والاجتماعية التي يحيا فيها سكانها، مع السعي الدائم لزيادة المصادر المجتمعية التي تتيح للأفراد مساعدة ودعم بعضهم بعضاً، في تأدية المهام والوظائف اليومية، والاستمتاع بالجوانب المختلفة للحياة.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية والطبية