قدمت الانتخابات البرلمانية الأوروبية لبعض الليبراليين المتفائلين فرصة للزهو. فقد أعلن مارتن سيلماير الأمين العام للمفوضية الأوروبية أن «ما يطلق عليه الموجة الشعبوية تم احتواؤها فيما اعتقد». وكان سيلماير يتحدث في جلسة لشركة «بوليتكو» الأميركية للصحافة السياسية يوم الاثنين الماضي تعليقاً على طائفة من النتائج، عبر القارة التي شهدت طغيان اليمين المتطرف على أحزاب الوسط التقليدية، لكنها شهدت أيضاً ارتفاعاً في الأصوات المؤيدة لوحدة أوروبا والدفاع عن البيئة. وخلص «سيلماير» إلى أن «الفائز الحقيقي لهذه الانتخابات هو الديمقراطية».
لكن آخرين لا يشاركون «سيلماير» حماسه. فالأحزاب التي كانت ذات يوم جزءاً من الهامش المتطرف أصبحت الآن مستقرة بحكم واقع الحال. وفي إيطاليا وفرنسا، التهمت أحزاب أقصى اليمين الدعم الذي كان يحظى به اليمين في التيار العام لتخرج منتصرة في الانتخابات القومية. والمعلق البلغاري إيفان كراستيف يرى أن الشعب صوت مرة «ضد الحكومة في الانتخابات الأوروبية لنقل رسالة ما، لكن لا أحد يريد فعلاً أن يجرب هؤلاء السياسيون أنفسهم في الحكم. هذه الأحزاب لا يُنظر إليها باعتبارها جادة فيما يتعلق بالسياسة. إنهم يلعبون سياسة فحسب. لكن لا مفر الآن من الاعتراف بأن اليمين الشعبوي المتطرف أصبح ملمحاً دائماً في السياسة الأوروبية».

وشهدت الانتخابات أيضاً صعوداً في الدعم للخضر وعودة إلى «الديمقراطيين الاشتراكيين» في إسبانيا وهولندا. لكن على خلاف الإعلان بأن «الوسط يحتفظ بمركزه»، أشار بعض المحللين إلى الكيفية التي تتغير بها الأرضية السياسية من تحت أقدامهم. وكتب عالم السياسة الهولندي كاس موده: «بدلاً من كونه انتصاراً للديمقراطية، تُظهر الانتخابات الأوروبية والردود على النتائج كيف أصبحت الشعبوية بصفة عامة، واليمين الشعبوي المتشدد بشكل خاص، جزءاً طبيعياً من التيار العام. ونجد أنه من العادي أن حزباً للنازيين الجدد هو ثالث أكبر حزب في دولة عضو وأن اليمين الشعبوي المتشدد هو أكبر حزب في عدد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي».
وخارج أوروبا يواصل القوميون غير الليبراليين والجناح اليميني المتشدد الصعود. ففي الهند، أكبر ديمقراطية في العالم، اكتسح رئيس الوزراء «ناريندرا مودي» وحزبه اليميني «بهاراتيا جاناتا» طريق العودة إلى السلطة في الأيام القليلة الماضية في فوز ساحق عصف بالتوقعات السابقة. وفي أستراليا احتفظ حزب «المحافظين» الحاكم بالسلطة في انتخابات لم يكن من المتوقع أن يفوز بها. وفي الولايات المتحدة، لا يُستبعد أن يعاد انتخاب الرئيس دونالد ترامب وهو ما كان غير محتمل من قبل.
وأشار الكاتب الأميركي «روث دوثات» في نيويورك تايمز إلى «الذبول العالمي لليبرالية». ويرى جان-ويرنر مولر أستاذ العلوم السياسة في جامعة برينستون، أنه من المؤكد أن هناك أموراً كثيرة متباينة بين حكام قوميين مثل ترامب وفيكتور أوربان رئيس وزراء المجر وخايير بولسونارو رئيس البرازيل ورجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي وبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، لكن من الممكن ملاحظة ميول مشتركة تشكل سياساتهم جميعاً. وكتب «مولر» في دورية «لندن ريفيو أوف بوكس» يقول: «فن الحكم الشعبوي يستند إلى القومية (غالباً بنبرة عنصرية) وعلى تسخير الدولة لخدمة أغراض الموالين الحزبيين وعلى أساس استخدام الاقتصاد كسلاح لكسب القوة السياسية، وإن يكن ذلك بدرجة أقل وضوحاً. إنه مزيج من الحرب الثقافية وشمول الجماهير بالرعاية والمحاباة».

وهذه الظواهر تتجلى بدرجات مختلفة في كل مكان يتمتع فيه قوميون أو من يطلقون على أنفسهم شعبويين بنفوذ بعد إجراء انتخابات. فالمهاجرون والأقليات يجري انتقادهم وشيطنتهم ويجري إعلام مؤيدي الزعماء الشعبويين مراراً بأنهم هم الممثلون الأصليون للأمة. «مولر» يجادل بأنه من الخطأ لمن يعارضون اليمين المتطرف الشعبوي أن ينتهي بهم الحال إلى الاقتصار على الجدل بشأن التحذير من العودة إلى فاشية الثلاثينيات أو السلطوية العسكرية.

ويرى مولر أنه يتعين على الليبراليين واليسار أن يحددوا ما يمثلونه هم بالفعل أكثر من كونهم مجرد مناهضين للشعبوية. وهناك طائفة واسعة من السياسيين والأحزاب يحاولون تفصيل ما قد يمثلونه تحديداً، من الدفاع عن التعددية في مجتمعاتهم إلى الدفاع عن البيئة ورفض عدم المساواة الاقتصادية في الداخل. لكن على المستوى الانتخابي، لا ينافس مثل هذا النوع من قائمة الأولويات إغواء القوميين من الجناح اليميني. وربما يكون هذا ببساطة بسبب الفاعلية الحاضرة للسياسة باعتبارها حرباً ثقافيةً.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»