ثمة حكمتان أثرتا في تكوين وعيي في سن اليفاعة، الأولى لأفلاطون حيث يقول (إذا أردت أن تقهر خصمك، ازدَدْ فضلاً في نفسك)، وأما الثانية فهي لأبي الطيب المتنبي حيث يقول:
(وما قتل الأحرارَ كالعفو عنهم ومن لك بالحرّ الذي يحفظ اليد؟!).
وأحسب أن قول أفلاطون يجسد حالة خاصة في التسامح بناها على قهر الخصم عبر السمو في النفس فوق الخلاف، والترفع عن الخوض في دوائر الانتقام، فخصمك الذي يتشهى أن يراك تسقط في هوة من الفشل والضعف والإخفاق، تشتعل نفسه ضيقاً بما يراه من نجاحك وتألقك، فماذا لو مددت له يوماً يد العون وأبديت له تجاهل ما بينكما من خصام؟ فإن فعلت فقد دنوت مما يراه المتنبي قتلاً معنوياً، لأنك بالعفو والتسامح قد سموت وعلوت وتركت خصمك يشعر بفداحة ما فعل، ولابد من فهم المعنى الدلالي لكلمة (الأحرار) فلن يقدّر معنى العفو من لايمتلك شهامة الأحرار ويترفع عن الرضوخ لذل العبودية المستكينة.
وفي البعد الأخلاقي الذي يشير إليه المتنبي يبدو اللؤم نقيضاً لسلوك الحر، حيث يقول في البيت التالي:
(إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا) فالإكرام ضائع عند من لايعرف قدره ومعناه، ويبقى العقاب ضرورة لمن لايرعوي، وقد أبدع المتنبي في التفريق بين الحالتين حين قال (وَوَضعُ النَدى في مَوضِعِ السَيفِ بِالعُلا مُضِرٌّ كَوَضعِ السَيفِ في مَوضِعِ النَدى).
ولا يكون العفو أو التسامح فضيلة إلا عبر اقترانهما بالقوة والمقدرة، فتسامح الضعيف مع القوي الغالب أقرب إلى أن يكون إذعاناً للقوة الغالبة، فأما إذا استوت القدرتان فذاك أقرب إلى العدل، وأما إن كان المسامح أشدّ قوة وأعلى مقدرة فذاك هو الرحمة التي تسمو على العدل، ولذلك كان العفو من شيم الكرام.
ولئن كان التسامح في اللغة محدداً بالعفو واليسر والتساهل فقد حدده اللغويون في المعاجم خشية الإسراف في الفهم بأنه (لاَ تَصَالُحَ مَعَ العَدُوِّ مَادَامَ عَدُوّاً) فشرط التسامح إنهاء العداوة، وكذلك يفسرون التسامح الديني (في احترام عقائد الآخرين).
ولقد عاشت البشرية قروناً طويلة بعيدة عن مفاهيم التسامح، فقد كانت المجتمعات تقرّ العبودية، وتقسم البشر إلى طبقات، ففي العهد الإغريقي وفي الحضارة الهلنستية كان المجتمع طبقات أعلاها شأناً طبقة المواطنين ثم الغرباء، ثم المعوقين ثم العبيد، وأكثر فلاسفة اليونان كانوا يقرون هذا التميز، وكذلك الأمر في حضارة الرومان، فقد أقرت القوانين تقسيم المجتمع إلى ثلاث طبقات، وكان السيد يقرر لعبده حق الحياة أو الموت، حتى جاءت ثورات العبيد صرخة قوية في وجه المستبدين، لكن الرومان أصروا على الطغيان ووضعوا قانوناً خاصاً بالأمم التي كانوا يستعمرونها، كيلا يكون لأهلها حق المواطنة الرومانية، ولم تستطع المسيحية السمحاء أن تغير الكثير من طغيان البشر، فقد دخل الاضطهاد الديني في فترات طويلة ليجعل الموت عقوبة لمن يخرج عن مذهب الإمبراطور، ولا ينسى التاريخ محاكم التفتيش التي أزهقت أرواح الملايين.
ولم تكن البيئة العربية بعيدة عن التأثر بهذه البيئة العالمية المستبدة، رغم انتشار مكارم الأخلاق فيها، حتى جاء الإسلام فجفف ينابيعه عبر قوانين صارمة تعلن المساواة بين البشر، فلا فضل لأحد على آخر إلا بالعمل الصالح والتقوى.
وقد حددت «وثيقة المدينة المنورة» مفهوم الأمة، بأنه ليس رباط دين أو عقيدة، وإنما هو رباط عيش مشترك، ففي مطلع الوثيقة نقرأ ما أقره النبي محمد عليه الصلاة والسلام (هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس).
إن هذا التحديد لمفهوم الأمة غير مسبوق في قوانين البشرية، وتعتبر الوثيقة (أول دستور) بالمفهوم المدني، وهي وثيقة دفاع مشترك، بنيت على التسامح الديني والقبلي، حيث كان أهل يثرب مختلفين في عقائدهم وأعراقهم وبينهم مشركون، فضلاً عن وجود أهل الكتاب من اليهود ومن النصارى.