أثناء إجازة الفصل الثاني الدراسي، قفزت الفكرة إلى ذهن العائلة لقضاء جزء من هذه الإجازة في لندن، فلم أتوان لحظة عن الموافقة، وقد غادرتها منذ قرابة ربع قرن، من بعد أن أنهيت الدراسات العليا فيها عام 1996. هذه العاصمة كنت أزورها سنوياً منذ عام 1981 وإلى ساعة تخرجي، مدينة يظن البعض حتى من الجيرة الأوروبية، أنها شاخت، لكني كنت أشعر بأنها تتجدد حيوية وشباباً.
لقد قررت الخروج من الاتحاد الأوروبي، عبر «بريكست» فذهبت «تريزا ماي» ضحية ذلك فسكبت دموعها أمام العالم معتذرةً لعدم تمكنها من ذلك. لقد وقفت أميركا طوال الوقت مع الخروج وهذا آخر تصريح لترامب في صحيفة The Sunday Times أنه يجب على بريطانيا «رفض دفع ميزانية انفصالها عن الاتحاد الأوروبي»، والتي تبلغ «39 مليار جنيه إسترليني» والانسحاب من محادثات الخروج من الاتحاد إذا لم تعط بروكسل بريطانيا ما تريده. وأضاف ترامب بأنه يجب على زعيم بريطانيا المقبل إرسال نايجل فاراج المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لإجراء المحادثات مع الاتحاد.
لندن عاصمة المال والأعمال وتنوع الشعوب والرجال، مدينة لم يتطرق إليها أمران الملل ولا الكلل، فهي جادة في رفاهيتها ومتعتها. هي ستة أيام يصعب اختصارها في بضع كلمات، ففي المطار كان العالم كله حاضراً، بكل حضاراتها وتنوعاتها الإنسانية، مطار «هيثرو» كما عهدته منذ عقود يضج بالبشر، صورة ولا أجمل.
بعد المطار كان السكن في شقة ملمومة جميلة في تأثيثها بمنطقة «شيستر كلوز نورث» راقية في إطلالتها على حديقة «ريجنتس بارك»، التي تبلغ مسحتها 166 هكيار، تستطيع أن تمشي فيها يوماً كاملاً دون أن تنهيها.
للعلم جزء من تلك الحديقة الغناء، هو خاص بحديقة الحيوان التي كانت مناسبة للأطفال، أما في المساحة الخاصة للطيور، فقد لفت نظري طائر فائق الجمال، لا تعرف لونه على وجه التحديد، وينطبق عليه قول الله تعالى في بقرة بني إسرائيل: «ما لونها إن البقر تشابه علينا..». فمن يظن أنه زرقاء اللون وما هو كذلك، وآخر يراه كحلي اللون، وهو ليس كذلك وثالث يجده نفطي اللون، فكل عين تراه بلون مغاير عن الآخر، فسبحان من خلق وصور.
المحطة الأخرى كانت في «قلعة وندسور» وهي بحق مدينة متكاملة في قلعة، قبل أكثر من ألف عام تأسست بريطانيا، التي لم تغب عنها شمس الجغرافيا طوال تلك الفترة الممتدة في هذا المكان، مقراً للحكم في مملكتها وإدارة لمستعمراتها الشاسعة، ولكن شمس سياستها لم تزل ساطعة على العالم أجمع، وهي مع أميركا تمثلان قطب التوازن الدولي مقابل الاتحاد الأوروبي أو روسيا وحتى مع الصين.
و كان لنا لقاء مع أحد مسارح بريطانيا lyceum theater الشهيرة حيث حضرنا عرضاً حياً للفيلم الشهير والخاص بالأطفال«ليون كينج» الذي تم إنتاجه سينمائياً عام 1994.
فمن باب العلم نذكر بأن مسرحية «شايلوخ» لشكسبير ما زال يعرض يومياً منذ أكثر من قرن وحاول اليهود إيقافه مراراً، ولكن مساعيهم فشلت في ذلك. لقد آذاني منظر المتسكعين في شوارع لندن، ممن لا سكن لهم، فجعلوا من الطرقات مأوى ومكاناً للإقامة الدائمة، وخاصة في برد الشتاء القارس، والتفت إلى انضمام بعض المسلمات إلى هذه الشريحة من الطبقة الاجتماعية المدقعة في الفقر، وهي ظاهرة لافتة لكل من يزور أوروبا، وكذلك أميركا ولا نعرف السر في عجزها عن التخلص من هذه المناظر اللا إنسانية، وهي دول لا تنقصها المال ولا العقول المبدعة، والساسة القادرون على إدارة الأزمات الطاحنة على مستوى الدول، فكيف عجزت عن حل هذه الإشكالية الاجتماعية في مفاصل مجتمعاتها المتقدمة.
وهذا الأمر كان محط اهتمام أحد أبنائي، الذي رافقنا إلى لندن لأول مرة، فكان سؤاله المباشر من هؤلاء؟! قد يكونون ممن هم تحت خط الفقر، أو من المهاجرين واللاجئين، أو من متلقي المساعدات والضمان الاجتماعي التي قد لا يسد الرمق، وكذلك هناك احتمال وارد من كسالى العاطلين عن العمل، ممن يفضلون العربدة على مسارات الجد والاجتهاد الصعبة، فكلهم مشكلة اجتماعية مشتركة بين البشر لا يخلوا منهم أي مجتمع ولكن باختلاف الصور.