لابد من تنبيه القائمين على مشروع السلام الأميركي المعروف بـ«صفقة القرن»، إلى أن الرواية الإسرائيلية الكلاسيكية عن اللاجئين الفلسطينيين رواية غير صحيحة، وهي الرواية التي تدعي أن الجماهير الفلسطينية قد غادرت فلسطين طواعيةً بناءً على دعوات صدرت من الزعماء العرب طلبت منهم مغادرة بيوتهم وأراضيهم ليفسحوا الطريق للجيوش العربية!
لقد ظلت المصادر الإعلامية والسياسية الإسرائيلية تردد هذا الادعاء الذي كان يلقى المساندةَ والتأييدَ من جانب الأكاديميين الإسرائيليين الكلاسيكيين، والذين كانوا حريصين على تجميل وجه القيادة الإسرائيلية التي قادت الحرب وفي طليعتها دافيد بن جوريون قائد قوات الهجاناة، والذي أصبح أول رئيس وزراء لإسرائيل.
لقد ظلت الأعمال الأكاديمية الإسرائيلية التي تتناول حرب 1948 تقدم هذه الرواية وتنفي الرواية العربية عن خلق مشكلة اللاجئين، والتي تقول إن مئات الألوف من الفلسطينيين أجبروا على مغادرة ممتلكاتهم والرحيل عن مدنهم وقراهم، نتيجة للمجازر التي ارتكبتها القوات الصهيونية في حقهم، وأولها وأشهرها مذبحة قرية دير ياسين القريبة من القدس.
لقد نجحت الأبواق الإسرائيلية في طمس الرواية العربية لمدة ثلاثين عاماً حتى ظهرت الحركة الأكاديمية الإسرائيلية المعروفة باسم «ما بعد الصهيونية»، والتي شرعت في تعرية الرواية الإسرائيلية الكلاسيكية عن اللاجئين، وراحت تكشف الفظاعات والمجازر الوحشية التي ارتكبتها قوات منظمة الإرجون تسفائي لؤومي أو المنظمة العسكرية القومية في حماية قوات الهجاناة وتحت رعايتها. لقد كانت طروحات هذه الحركة الأكاديمية الإسرائيلية مستندةً إلى الوثائق الأميركية والبريطانية، التي أُفرج عنها عام 1978 أي بعد ثلاثين عاماً من الحرب.
لقد قدم أستاذ التاريخ «بني مورس»، ومعه أستاذ العلوم السياسية «إيلان بابيه»، وكلاهما إسرائيليان ينتميان لحركة «ما بعد الصهيونية»، في دراسات عديدة، وقائعَ تؤكد صحة الرواية العربية عن خلق مشكلة اللاجئين، وذلك بالكشف عن الخطة العسكرية التي وضعتها الهجاناة باسم الخطة دال، والتي شكلت غطاءً للقادة العسكريين الميدانيين الإسرائيليين لطرد الجماهير العربية، تحت ادعاء أن وجود هذه الجماهير يهدد أمن المستوطنين اليهود.
إن كشوف هذين الأستاذين الإسرائيليين لم تثن الأكاديميين الإسرائيليين الكلاسيكيين عن الاستمرار في زعمهم بأن الجماهير الفلسطينية خرجت بناءً على نداء من الزعماء العرب، وبالتالي بقيت الروايتان وجهاً لوجه؛ الأولى الرواية العربية المدعومة بأبحاث الأكاديميين الإسرائيليين المنتمين لحركة «ما بعد الصهيونية»، والثانية هي الرواية الإسرائيلية الكلاسيكية المعروفة. لكني توصلت من خلال البحث إلى إمكانية بيان الحقيقة من خلال الرجوع إلى عام 1948 ومراجعة تواريخ الوقائع لنرى ما الذي حدث أولاً؟ هل هو النداء الذي صدر من الزعماء العرب أم المجازر الإسرائيلية التي ارتكبت في إطار الخطة دال؟
إن الوقائع التاريخية تؤكد أن أول المجازر الإسرائيلية وقعت في التاسع من أبريل عام 1948، وهى مجزرة قرية دير ياسين التي دخلتها قوات الهجاناة التابعة لبن جوريون مع قوات الإرجون التابعة لمناحيم بيجين في ذلك اليوم. أي أن المجازر الإسرائيلية بدأت أولاً قبل إعلان قيام دولة إسرائيل في منتصف مايو، وهو الإعلان الذي تلاه وترتب عليه إعلان جامعة الدول العربية عن دخول الجيوش العربية لمساندة الشعب الفلسطيني الذي تفتك به آلة الحرب الإسرائيلية.
إننا هنا أمام حقيقة تاريخية قاطعة تفيد بأن إسرائيل هي الطرف المسؤول عن خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، ومنع عودتهم إلى ديارهم بعد ذلك، وهو ما يتطلب من أي مشروع للسلام أن يضع نصب عينيه ضرورة إيجاد حل عادل لهذه المشكلة.

*أستاذ الدراسات العبرية -جامعة عين شمس