بعد انهيار منظومة الاتحاد السوفييتي وبدء الحرب الباردة الثقافية بين أميركا والشيوعية، واجه العالم تغوّل العولمة الثقافيّة وعملية (قرن التسوّق والتسويق بالموضة، واستبدال ثقافة الشعوب ذات الخصوصية بثقافة القوة المسيطرة)، لينتج عنه ما سميّ (الثقافة الكونيّة للاستهلاك). وبما أن الأساليب والقواعد التي اتبعت في هذه الحرب الباردة الأميركية ضد الاتحاد السوفييتي، من صناعة البشر، ظلت صلاحيتها مستمرة للاستخدام في أي اختلاف للأفكار والثقافات بين الشعوب والأمم.
«انتهاء الحرب الباردة لم يلغ فعلياً الحرب الثقافيّة»، بهذه العبارة تدخل مؤلفة كتاب «الحرب الباردة الثقافية» فرانسيس ستونر سوندرز، دائرة الأهمية التي دفعت المفكر الراحل إدوارد سعيد إلى وصفه بـ (إنه عمل مهم من أعمال البحث التاريخي)، بل هو من أشمل الكتب التي تكشف العالم الخفي لتسييس الثقافة والفن والأدب في مرحلة ما بعد الحرب الباردة بين القوتين الأعظم. فتتحدث فرنسيس أولاً عن إعلان أميركا الحرب على شيوعييها من الأميركان ومحاصرتهم في الداخل، وتتبعهم في أوروبا (عبر دعاية احترافية تستهدف الأفكار والأشخاص حتى وإنْ كانت تلك الدعاية في عمقها مناقضة لمبادئ الحرية الفردية). وتنقل المؤلفة عبر الوثيقة كيف أن تلك الدعاية (استخدمَت الديانة المسيحية في الحرب على الشيوعية استخداماً رسمياً من طرف الدولة بكامل مؤسساتها الأمر الذي يتناقض مع العلمانيّة)، التي ينادى بها. ويضم الكتاب إحدى الأفكار المبتكرة في التاريخ الاستخباري المعاصر وعدّت اكتشافاً، مفادها: إن ضرب أي توجه بغية القضاء عليه لن يتم بالصورة المُثلى إلاّ من خلال ضربه من الداخل، وذلك من خلال رجاله ومنهجه، حيث إن رجال أي تيار أو معتقد مهما كانت رتبهم، يصبحون بمرور الوقت جزءاً من المنهج، وخيانتهم له أو ردتهم عنه علناً ومهاجمة تجربتهم السابقة، هو أخطر بكثير على التيار أو المعتقد من ضربه من الخارج. وما إصرار المتطرفين الدينيين على تنفيذ عقوبة إقامة الحد على عضو متمرّد إلاَّ بخطورته المعنوية لا المادية (في حالة داعش: قطع رأس العضو المرتد). كما أن أميركا في الفترة «الستالينية تبنت الشيوعيين المرتدين على نهج ستالين ومكنتهم من صناعة مدرسة يسارية داخل المظلة الشيوعية). والدعاية التي استخدمتها أميركا في حربها الثقافية ضد الشيوعية، تقول المؤلفة، إنها تضمنت خطاً موازياً للعمل عبر المراكز الثقافية والمنابر كالمجلات والصحف والندوات والجوائز، يباع من خلالها ويسوّق نمط الحياة الأميركية كخيار أوحد للبشرية، ومؤسسة هوليوود كان لها دور بارز. وتخلص إلى أنه: لم يعد عميل اليوم هو عميل الأمس (مسدس وسيجار ونظارة شمسية) كما في الأفلام، حيث تم تجاوز هذا النمط التقليدي إلى عمالة مقنعة (يُستخدم فيها العميل من دون علمه وإدراكه أنه أصبح عميلاً، إذ يمكن أن يكون أكاديمياً بارزاً أو كاتباً مؤثراً أو شخصاً رياضياً أو ممثلاً لامعاً، وهو يعتقد أنه يتعامل مع مراكز ثقافية وفنية مستقلة ووكالات أخبار موثوقة، لكن المسألة أعمق من ذلك بكثير. إن سحر المؤسسة الغربية وقوتها وقدرتها الفائقة تكمن في عدم اشتراطها أن يكون الشخص ملتزماً ومثقفاً عضوياً مقتنعاً بالمنهج، كما في الشيوعيّة، إنما المهم لها هو أن يكون الشخص زبوناً مستهلكاً، ويتقن عمله في المصنع والشركة ليصبح جزءاً من منظومتها بصرف النظر عن معتقده أو فكره.
*إعلامي وكاتب صحفي