منذ ضم القرم في 2014، ظلت روسيا، ظاهرياً على الأقل، أحد أكثر البلدان استقراراً وقابليةً للتنبؤ: حكومة تسعى لتأكيد قوتها مدعومة في ذلك بخليط من التأييد والتشديد في الداخل. وبالتالي فمن الطبيعي والحالة هذه أن تحاول بعض العقول التحليلية البارزة في البلاد استشراف الحياة بعد 2024، وهو التاريخ الذي يتوقع أن يغادر فيه بوتين السلطة: فالحاضر أكثر وضوحاً من أن يناقَش.
«مؤسسة روسيا الحرة»، وهي مركز أبحاث ودراسات يوجد في العاصمة الأميركية واشنطن ويرأسه مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق ديفيد كريمر، نشرت مؤخراً تقريراً يتألف من 170 صفحة حول الوضع المتوقع في البلاد في 2030. التقرير ساهم في تأليفه بعض من أبرز المعلقين المعارضين لبوتين: المحلل السياسي ألكسندر موروزوف، والخبير الإعلامي فاسيلي غاتوف، والخبيران الاقتصاديان فلاديمير ميلوف وفلاديسلاف إينوزيمتسيف، وعالم الأنثروبولوجيا الاجتماعية دنيس سوكولوف، وخبير الطاقة إليا زاسلافسكي. ولئن كان التقرير لا يحاول حجب الاختلافات الواضحة في آراء المؤلفين، فثمة بعض الإجماع حول نقاط التوتر الرئيسية في مستقبل روسيا القريب. وهذه النقاط كالتالي:
روسيا ستظل تعتمد على صادرات الطاقة: فرغم كل الحديث عن تقليص اعتماد البلاد على صادرات النفط والغاز، فإن هذين الأخيرين شكّلا 40? من عائدات الميزانية في 2017، ما يمثل ارتفاعاً مهما مقارنة مع 25? عام 2000. غير أن هذا النموذج سيواجه تحديات بسبب صعود المركبات الكهربائية، وازدياد المنافسة في سوق الغاز الطبيعي العالمية، وتراجع الطلب على الفحم الذي يمثل ثالث أكبر سلعة تصدرها روسيا. وإذا كان لا أحد من مؤلفي التقرير يتوقع التغلب على هذا الاعتماد على الطاقة، فإن أياً منهم لا يتوقع أزمة طاقة قبل 2024. غير أنه إذا انخفض سعر النفط إلى ما دون 30 دولاراً لفترة طويلة، قد تصبح العقوبات الغربية مرهِقةً لأي نظام يخلف النظام الحالي.
روسيا ستصبح تحت تأثير الصين بشكل متزايد: ذلك أن التحالف بين البلدين سيزداد ويتقوى بحيث توفر روسيا كميات أكثر من المواد الخام، بينما توفر الصين البضائع المصنعة. والتعاون العسكري المكثف بين البلدين سيزداد ويتعزز بالتوازي مع تحالفهما المتصاعد ضد الولايات المتحدة. وضمن السيناريو الأرجح الذي يناقشه التقرير، ستصبح روسيا دولةً تابعة للصين، ما يعزز قوتها العسكرية ويسمح باستيعاب سوقها الداخلي تدريجياً. ويذكر هنا أن كلاً من العقوبات الغربية والمواجهة الأميركية مع بكين تزيد من احتمالات هذه النتيجة، رغم عدم شعبية هذا التحالف داخلياً.
لا مغامرات عسكرية عالية الكلفة، لكن ينبغي مراقبة بيلاروسيا وكازاخستان: والواقع أنه لا أحد من المؤلفين يتوقع قيام روسيا بأي خطوات شرسة عسكرياً ضد دول البلطيق، لكن بيلاروسيا قد تكون هدفاً جذاباً، وذا شعبية داخلياً، في حال أراد بوتين البقاء في السلطة بعد 2024 كرئيس لدولة موحدة. فالتعاقب البطيء في الزعامة في كازخستان قد يطرح تهديداً. وإذا اختارت الدولة المجاورة الانحياز للصين أو تركيا أكثر، فإنها ستسلب روسيا إحدى المصدات الأمنية المهمة. ولهذا، فإن ينظر مؤلفو التقرير إلى بيلاروسيا وكازخستان باعتبارهما هدفين أكثر احتمالا للتدخل الروسي مقارنة بأي بلد آخر، لأنهم غير واثقين بشأن القوة العسكرية الحقيقية لموسكو والشعبية الداخلية الممكنة للعمل المسلح. فالانتصارات الأخيرة في أوكرانيا وسوريا كانت ضد خصوم ضعفاء.
لا تمرد من قبل النخبة: بعض المؤلفين يتوقعون انعدام ولاء متزايد تجاه موسكو على الصعيد الإقليمي، في حين يبدو آخرون متشائمين. إذ يرى هؤلاء أن كل أجزاء المؤسسة، من عالم التجارة والأعمال إلى الجيش، استثمرت كثيراً في الوضع القائم ولها مصلحة كبيرة فيه استمراره. وفي بلد شكلت الشركات الخاصة نسبة 70? من الإنتاج الاقتصادي عام 2004، وحيث تتحكم الشركات التابعة للدولة في 70 في المئة من هذه الشركات حالياً، فإن كل من العصي والجزرات تأتي من مصدر مركزي.
منطقياً، أجدني مع مؤلفي التقرير حول كل ما جاء فيه، لكن على صعيد أقل عقلانية، لا أعتقد أنه ينبغي التقليل من دور الروس العاديين إلى هذه الدرجة، لاسيما بالنسبة لأي شخص رأى الروس في السنوات الأخيرة من حكم الاتحاد السوفييتي.
*محلل سياسي روسي مقيم في برلين
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»