أثبتت الزيارة الناجحة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة إلى ألمانيا الأيام القليلة الماضية، أن العلاقة ما بين البلدين فوق استراتيجية، فقد تجاوزت وعبر نحو خمسة عقود العلاقات التقليدية بين الدول والشعوب، مع ما يمثله البلدان من أحجار زاوية أساسية في النظام الإقليمي والعالمي.
الحديث عن الإمارات العربية المتحدة اليوم يعني الحديث عن الدولة التي تجاوزت المفهوم «الويستفالي» للدولة العصرية، التي بلغت حد الدولة- الرسالة، صاحبة الدعوة على الصعيدين الأدبي الأخلاقي من جهة، والمادي الابداعي من ناحية ثانية.
باتت الإمارات رمزاً للتصالح والتسامح، للقاء والاتفاق، عبر نموذجها الإنساني والوجداني، حيث أضحت كما أشرنا أكثر من مرة، دولة بمثابة رواق للأمم، ومثال حي على عولمة صحيحة وصحية، تلتقي شعوب العالم على أراضيها للتعارف ولتبادل المصالح، في وئام وانسجام كاملين، ومن دون فكر القوميات المتطرفة أو الشوفينيات الضارة.
فيما الجانب الثاني والذي يجد وقعاً كبيراً عن الألمان بنوع خاص، هو التجربة الناجحة للإمارات على أصعدة عدة، الصناعة والتجارة، النضال من أجل نهضة إنسانية، ما يجعل الصديق الألماني يتذكر سنوات العرق والألم والدموع التي أعاد فيها بناء دولته بعد الخراب الذي لحق بها أثناء الحرب العالمية الثانية.
أما عن ألمانيا فللمرء أن يُحدث ولا حرج عن النجاحات التي أدركتها عبر نصف القرن الماضي، وحتى أضحت قلب أوروبا النابض اقتصاديا وماليا، مع ما لها من حضور سياسي، مكنها عند لحظة بعينها، وخلال الغزو الأميركي للعراق في 2003 أن ترفض المشاركة في مثل تلك الحرب، ما يعني أن قرارها السياسي بات مستقلاً عن العم سام بصورة واضحة للغاية.
تجيء زيارة الشيخ محمد بن زايد إلى ألمانيا في توقيت قيم بحسب علم النفس، أي توقيت تكتسب فيه كل خطوة معنى ومبنى بشكل مهم للغاية. فألمانيا على علاقة قوية بإيران، ذاك البلد المزعزع للاستقرار في الخليج العربي والشرق الأوسط، وليس سراً القول إن أجهزة المعلومات الألمانية تعد من أقوى الأجهزة على صعيد أوروبا والعالم في حاضرات أيامنا، وعليه فهي على اطلاع كامل وشامل بما تقوم به إيران سراً وجهراً، وبخاصة فيما يتعلق بالبرنامج النووي الذي تداري وتواري إيران حقيقته، وإنْ كان ذلك كله لا ينطلي على الألمان.
يمكن القطع اليوم بأن الألمان لا سيما بعد الزيارة الأخيرة لوزير خارجيتهم «هايكوماس» باتوا على بينة من حقيقة الأوضاع والمراوغات الإيرانية التي لا تنطلي على عاقل، ولهذا كان ولا يزال موقفهم حازم وحاسم، إذ يرفضون امتلاك إيران سلاحاً نووياً.
أكثر من يمكنهم تفهم مخاوف جيران إيران الإقليميين وفي المقدمة منهم المملكة العربية السعودية والإمارات، هم الألمان، أولئك الذين خبروا جنون الأيديولوجيات حين تمسك بالقرار الأعلى، ومن ثم تقود البلاد والعباد إلى الخراب، ولهذا لم يكن غريباً أو مثيراً أن تقارب بعض القراءات بين جنون هتلر في الماضي، وطموحات إيران النووية، وبخاصة في ظل سلطة ثيولوجية تؤمن بالغيب أكثر من الواقع، وتتخذ قرارات بناء على مقدرات عقدية، وما أسوأ الحال الذي عاشته أوروبا حين استولت المقدرات الدينية على واقعها الحياتي والإنساني في القرون الوسطى.
الإمارات وألمانيا بلدان يرتبطان بعلاقات قوية وتناغم خلاق، وتثبت الدبلوماسية الإماراتية يوماً تلو الآخر فعالية دبلوماسيتها لا على مستوى ألمانيا أو أوروبا فحسب، بل على صعيد العالم برمته، إذ تلقى احتراماً ومصداقية، ينبعان من الثقل الاستراتيجي للقيادة الحكيمة التي تقول ما تفعل، وتفعل ما تقول في صدق وأمانة، ومن دون اللعب على المتناقضات، أو الازدواجية القاتلة، ومن دون تقية يجري الآخرون وراءها.

زيارة الشيخ محمد بن زايد إلى ألمانيا واللقاء مع المسؤولين الألمان، وفي المقدمة منهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، طريق لتعميق الشراكة «الما فوق استراتيجية» بين البلدين، في المجالات السياسية والاقتصادية، ولأجل تحديد الاتجاهات المستقبلية، سيما وأن الطرفين يمتلكان طموحات عالية في مجالات متعددة مثل التصنيع الذكي، وإنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، وكذا كفاءة الموارد والطاقة والمياه والاقتصاد الأخضر، إنها طريق المستقبل المزدهر والمستدام معاً.
*كاتب مصري