زارنا مؤخراً في الجامعة الأورومتوسطية بفاس وزير الشؤون الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، واطلع على ما تم إنجازه لحد الآن في إطار جامعة حديثة تتشرف بالرئاسة الشرفية لجلالة الملك محمد السادس، وقد قام بالمصادقة على إنشائها 43 دولة عضواً في الاتحاد من أجل المتوسط. وعبّر الوزير الفرنسي عن إعجابه الكبير لما تحقق في ظرف قياسي في مؤسسة تكوينية وبحثية تسعى لتكون صلة وصل بين ضفتي المتوسط وأفريقيا بل والعالم، وقاطرة تنموية للمنطقة، وتكون لها مكانة في مصاف الجامعات العالمية الكبرى، خاصة وأن الجامعة تملك اتفاقيات جادة بالعشرات مع كبريات الشركات والجامعات والمؤسسات. وأحيي هنا بالمناسبة رئيس الجامعة الأستاذ مصطفى بوسمينة، وهو أحد كبار علماء الفيزياء وصاحب العشرات من براءات الاختراع وحاصل على العديد من الجوائز العالمية وله اليد الطولى في خلق بعض المختبرات الكبرى خاصة في أميركا الشمالية. كما أحيي رئيس مجلس الأمناء الوزير محمد القباج الذي قضى حياته ناسكاً في محراب التنمية والبناء، وكل أعضاء مجلس الإدارة من المغرب ومن الفضاء المتوسطي، حيث أتشرف بالعضوية معهم ونسعى كلنا لترسيخ ثقافة الإنتاج والإبداع.
صحيح أن الاتحاد من أجل المتوسط تعثّر في الكثير من مراحله، لكننا بقينا منافحين ومشجعين لمجال البحث العلمي في إطار هذه المنظومة الإقليمية الموسعة وغير المتكافئة بين شمالها وجنوبها، لأنها قاطرة لتعاون بنّاء ودائم دون تأشيرات ودون حدود جغرافية أو عوائق سياسية. مازلت أتذكر ذلك المؤتمر التمهيدي الذي عقده المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الاستراتيجية والدولية عام 2008، قبيل قمة باريس المؤسسة للاتحاد، حيث دعونا في الإعلان الختامي لخلق جامعة أورومتوسطية يكون مقرها بمدينة فاس، والتي كانت تحتفل بمرور اثني عشر قرناً على إنشائها، وهي تضم أعرق وأقدم جامعة في العالم، أي جامعة القرويين، وكان البعض يظن أن ذلك المقترح مجرد حلم يصعب تحقيقه، وها هو الآن يصبح حقيقة بفضل النوايا الحسنة وتضافر الجهود والإيمان اليقيني بأن مستقبل العباد والأوطان يكون بالعلم والتعلم الحديث ونكران الذات والثبات على المبادئ والقيم الإنسانية والحضارية المثلى.
مستقبل الأمم والشعوب يكون بالعلم والتعلم وبالتكنولوجيا والخبرات وتبادل المعلومات، لذا فإن الدول العربية ستظلم الأجيال اللاحقة إذا لم تستثمر في العنصر البشري تكويناً وتحفيزاً، وعلى الجميع أن يفقه أن تطور الجامعة يكمن في استجابتها الفعالة لعدة تحديات:
- ففي ما يتعلق بمناهج الجامعات، يجب اقتراح برامج تعليمية وأبحاث مبنية على حاجيات اقتصاد المعارف (مع احترام العلوم الإنسانية والاجتماعية). فالأمر يتعلق أساساً بتحديد مؤهلات الخريجين وذلك بمساعدتهم على أن يصبحوا مواطنين «عالميين» ومسؤولين.
- كما أن جامعة اليوم يجب أن تستجيب للتحديات المعاصرة في شكل سياسات وبرامج حكومية أو أكاديمية. فكيف للجامعة أن تعرف نفسها في الخارج؟ وكيف تقيم شراكات مع عالم الأعمال أو الجامعات الأجنبية؟ وكيف تسهّل حركية الأساتذة والباحثين والطلاب؟ يجب على الثقافة التنظيمية أن تعكس هذا التدويل وأن يكون قابلاً للتطبيق في جميع قطاعات الجامعة (الموارد البشرية، المناهج إلخ). فالتعليم العالي، خارج الحدود الوطنية، يشمل بعداً آخر. إن هذا النوع من التعاون يدعو بالضرورة إلى إقامة شبكة جهوية تضمن الجودة والارتكاز على أنظمة الاعتماد والبحث والإبداع إضافة إلى الحكامة. فالتعاون يجب أن يكون متيناً في كل المنطقة، سواء أكان التعاون وطنياً أم إقليمياً أم دولياً.
- ولا غرو أيضاً في أن تكتل التعليم العالي هو الذي حوّل بشكل عميق بنية التعليم العالي خلال العقدين الأخيرين. وأفضل برهان على ذلك هو تنويع التعليم (الخصوصي، كلية المجتمع community college، عبر الخط on-line). أما الحل الآخر فهو جعل حركية الطلاب مرنة داخل النظام التربوي أو بين مختلف الدول والمناطق. لكن هل الجامعة مكان يتعلم فيه الطلاب طريقة التفكير أم هي مكان لاكتساب القدرات لولوج سوق الشغل بعد ذلك؟ إنه السؤال الفلسفي الأساسي الذي يطرح نفسه. وهنا أيضاً، على الجامعة أن تحدد مسبقاً، وبوضوح، رؤيتَها ومهمتها. وعلى العموم ينبغي للجامعة أن تطرح على نفسها سؤالين بسيطين: من نحن؟ وماذا نفعل؟