لم تتوقف أضرار السياسة الخارجية التركية عند حدود الوطن العربي، نتيجة رعايتها لما يُسمى بالمشروع الإسلامي في المنطقة، وإنما امتدت مؤخراً إلى أوروبا، وكان أبرز تجليات هذه الأضرار، في الآونة الأخيرة، ما تعلق باكتشافات الغاز وآفاقها الواعدة شرق المتوسط، وعندما أُعلن العثور في الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص على حقول للغاز، سارعت تركيا إلى إعلان حقها في التنقيب عن الثروات الطبيعية في المنطقة، وأرسلت سفينة حفر إليها، وتستند السياسة التركية في هذا التصرف إلى واقع غير قانوني، يتمثل فيما يُسمى بجمهورية شمال قبرص التركية، التي نشأت في 1974 بتدخل عسكري تركي، كرد فعل لانقلاب قام به قبارصة يونانيون أراد ضم الجزيرة إلى اليونان، ولم تعترف دولة واحدة في العالم سوى تركيا بهذه الجمهورية، وهى الآن تستخدم هذه الواقعة في الادعاء بأن لهذه الجمهورية حقوقاً في المياه الإقليمية والجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة، أي أنها تؤسس حقوقاً على عمل منافٍ تماماً للقانون الدولي لا يعترف به أحد سواها، بل لقد اعترضت تركيا جهود الجمهورية القبرصية صاحبة الحق الأصيل في ثرواتها، عندما تعاقدت مع شركات عالمية عملاقة كإينى وتوتال وإكسون موبِل للتنقيب عن الغاز في منطقتها الاقتصادية الخالصة. وقد أبدت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي قلقها من الموقف التركي، وكذلك فعلت واشنطن وقوى إقليمية في شرق المتوسط كمصر، ومنذ أوائل الشهر الماضي أرسل الاتحاد الأوروبي التحذير تلو الآخر لتركيا، بعد أن أعلنت عزمها استكشاف الغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص دون جدوى.
في هذا السياق، انعقدت القمة السادسة لدول جنوب أوروبا في مالطة، الجمعة الماضية، والتي حضرتها كل من فرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال واليونان وقبرص ومالطة، وكان طبيعياً أن تهتم بهذه القضية التي تمس مصالح إحدى دول المجموعة وأمنها، وأن تتبنى موقفاً حازماً إزاء الممارسات التركية، وقد دعا البيان الختامي للقمة تركيا إلى وقف أعمالها غير الشرعية، وعبر عن الأسف الشديد «لعدم استجابة تركيا للدعوات المتكررة التي وجهها الاتحاد الأوروبي، والتي دان فيها الأعمال غير الشرعية، التي تقوم بها في تلك المنطقة». والأهم أن البيان قد هدد بأنه «إذا لم توقف تركيا أعمالها غير القانونية فإننا نطلب من الاتحاد الأوروبي البحث في تدابير مناسبة تضامناً مع قبرص»، أي أن القمة قد أضفت طابعاً أوروبياً جماعياً على القضية، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى عضوية قبرص في الاتحاد الأوروبي، وسوف تكون هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها تركيا لموقف أوروبي يواجه صراحة سياسات البلطجة التي تتبعها، ويكتسب هذا الموقف أهميته من إمكان تطبيقه عملياً ونجاحه دون حاجة إلى عمل عسكري، ذلك أن منع تركيا من التنقيب ممكن عملاً بإظهار العزم اللازم واتخاذ الإجراءات الرمزية الكافية (كتموضع قوة بحرية أوروبية)، لتعويق أي أعمال تنقيب تركية وتفعيل أعمال التنقيب الشرعية من قبل الحكومة القبرصية.
وربما لهذا السبب (أي لإمكان تفعيل موقف أوروبي جماعي ضد تركيا) لوحظ أن رد فعل الخارجية التركية جاء عصبياً، فقد أصدرت بياناً غداة صدور البيان الأوروبي، رفض مضمونه بحجة مخالفته القانون الدولي، وهو ما يمثل ذروة الطرافة، ويُذَكر بالتعارض المنهجي بين السياسة الخارجية التركية وقواعد القانون الدولي، كما يبدو واضحاً من السياسات المائية التركية التي لا تلتزم بقانون الأنهار الدولية المعتمد من الأمم المتحدة، وكانت تركيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي اعترضت عليه، ومن الانتهاكات المتكررة لسيادة كل من سوريا والعراق، بتوغل قواتها دون استئذان في أراضي البلدين. واعتبرت الخارجية التركية أن بيان قمة جنوب أوروبا يعكس الموقف اليوناني/القبرصي، وأضافت أن العبارات الواردة فيه لا قيمة لها ولا تأثير بالنسبة لتركيا، وأنها نموذج جديد مؤسف على استغلال اليونان وقبرص عضويتهما في الاتحاد الأوروبي، الذي لا يمكن على هذا النحو أن يكون فاعلاً محايداً وموثوقاً في المسألة. وجدد البيان عزم تركيا حماية حقوقها في جرفها القاري شرق المتوسط وحقوق القبارصة الأتراك المتساوية في موارد الجزيرة. وبهذه المواجهة الجديدة مع أوروبا تكمل السياسة التركية انتقالها من سياسة «صفر مشاكل»، التي دشنها داود أوغلو في بداية حكم أردوغان، إلى سياسة «مشاكل مع الجميع» في الوقت الراهن.
*أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة