تصعد الحركات اليمنية القومية والأصولية الدينية في أنحاء واسعة في العالم، وتؤثر في الانتخابات العامة إن لم تهيمن عليها على نحو يبدو العالم يتجه فيه نحو اليمين السياسي والديني، وبعدما انحسر اليسار أو اختفى تقريباً، فإن تيارات واتجاهات الوسط السياسي والاجتماعي (الليبرالية والمحافظة والديمقراطية الاجتماعية بشقيها الليبرالي أو اليساري)، والتي هيمنت على الحياة السياسية والعامة عدة قرون، تواجه تحديات كبرى في قدرتها على مواصلة تأثيرها، وتحفيز الأفراد والمجتمعات.
كانت الشيوعية والأناركية (الشيوعية الأكثر تطرفاً) تشكل هاجس الدول والمجتمعات الليبرالية (بالمفهوم السياسي الواسع لليبرالية بمعنى الحكم المدني المستمد من الحريات الاقتصادية والسياسية والفردية) وحشدت كل مواردها باتجاه هذه المواجهة، وفي أحيان كثيرة كانت تتحالف مع اليمين الديني والقومي، وتوظف عداءهما الأيديولوجي للشيوعية، كما أنشأت منظومة اجتماعية واقتصادية من الحريات والضمان الاجتماعي والحقوق والحريات العامة، لكنها (الليبرالية) في ذروة انتصارها على الشيوعية، وعندما حسمت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي وحلفائه لصالحها على نحو يبدو «ضربة قاضية» تخلت وبسرعة عن سياساتها الاجتماعية الاقتصادية، واجتاحت العالم اتجاهات وسياسات «نيوليبرالية» قاسية، فقدت فيها المجتمعات والطبقات منظومات الحماية الاجتماعية والاقتصادية والتأمين الصحي وفرص العمل والأجور العادلة، وتحولت المؤسسات العامة للخدمة والموارد إلى شركات واحتكارات جعلت معظم الخدمات الأساسية سلعاً استثمارية مكلفة، وتراجعت على نحو مخيف (وربما كان مقصوداً) المرافق العامة والمؤسسات الحكومية للتعليم والصحة والتكافل الاجتماعي.
وعندما استفاق العالم على وقع الأزمة المالية الكبرى عام 2008 كانت «الرأسمالية الليبرالية» نفسها تتعرض للانهيار الذي وقعت فيه المنظومة الشيوعية السوفييتية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، لكن ولسوء الحظ فقد تبين أن الإصلاح ليس فقط سياسات ومبادرات اقتصادية وسياسية واجتماعية تستوعب الأزمة أو تساعد الناس وتنقذهم من الفقر والبطالة، لكنه عالم جديد يتشكل وعالم قديم ينسحب وينهار، فالسياسات والاتجاهات التي عصفت بالعالم، لم تكن مجرد فكرة أو نزوة سياسية أو اقتصادية، لكنها تفاعلات واستجابات معقدة للتحولات الكبرى في الموارد والتكنولوجيا.
وعلى هذا النحو، قهرت العولمة الشبكية الاتحاد السوفييتي والشيوعية، كما أخضعت الرأسمالية الليبرالية نفسها للتحول بل إلى ما يشبه الهزيمة. وفي ظل حالة الخوف والقلق وعدم اليقين المصاحبة للتحولات صعدت الحركات والجماعات القومية والدينية، باعتبارها مظلة بديلة للأمم تلجأ أو تنكص إليها في مواجهة التحديات الكبرى والعاصفة.
عندما ظهرت الليبرالية السياسية والاقتصادية في القرن السابع عشر كانت تعكس الوعي الاجتماعي للطبقة الوسطى الجديدة الصاعدة وإدراك هذه الطبقة للفرص والتحولات الواعدة، هكذا رحلت الطبقة الإقطاعية والأرستقراطية مع الثورة الصناعية، وحلت مكانها كتلة اجتماعية كبرى من أصحاب المهن والتخصصات التي أنشأتها الحركة العلمية والصناعية الكبرى والأسواق والسلع الجديدة، وعلى يمين هذه الطبقة نشأت الاتجاهات المحافظة من الأرستقراطيين والأغنياء (ليسوا أرستقراطيين ما قبل الثورة الصناعية من الإقطاعيين والملاكين الكبار)، وعلى يسارها الاتجاهات اليسارية من الليبرالية الاجتماعية أو الاشتراكية الديمقراطية، وظلت هذه الكتلة الوسطية من الليبراليين والمحافظين والاشتراكيين في تفاهماتها وتسوياتها وصراعها أيضاً تدير وتنظم الحياة والقيم السياسية والعلمية، وتطور التكيف والاستجابة مع التحديات والتحولات، هي حضارة الطبقة الوسطى، أو كما يقول المؤرخ الاقتصادي «أريك هوبز باوم»: «اجتمعت العناية الإلهية والعلم والتاريخ لتجعل الأرض لقمة سائغة للطبقة الوسطى».
وهكذا فإن الاستيعاب الممكن أو المفترض للتحولات الكبرى الجارية في العالم يعتمد على استعادة أو تمكين الطبقة الوسطى التي عصفت بها الأحداث والأسواق والموارد الجديدة، وحولت العالم إلى أقلية ضئيلة من الأغنياء وأغلبية من الفقراء، أو إيجاد طبقة وقيادات ومؤسسات قادرة على تحقيق العدل والرضا للناس جميعاً، وإدارة وتنظيم الموارد والسياسات بعدالة وكفاءة، فإذا لم تكن الطبقة الوسطى قادرة على استيعاب المرحلة الجديدة، أو عندما نجد طبقة الثورة الصناعية ليس لها مكان فإن العالم يبحث عن قادة جدد!
بدا في لحظة ما أن القادة الجدد هم الجماعات اليمينية من الأصولية الدينية والقومية، وأظهرت الأحداث التي شهدتها الساحة العربية منذ عام 2010 «الربيع العربي» أن المجتمعات بلا قيادات، وكانت الجماعات الدينية السياسية والقومية بمخاطبتها لنوازع الخوف والبحث عن الطمأنينة مرشحاً تلقائياً أو جاهزاً لجأت إليه الأمم، لكنها أيضاً جماعات آفلة تعكس أزمة الليبرالية نفسها، فهي- كما اليسار- كانت تصعد وتنحسر تعبيراً عن أزمة الليبرالية الوسطية وعجزها عن مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتواصلة، وفي ذلك فإنها برغم شعبيتها الكبيرة لا تملك المشروعية الحضارية بما هي تحسين الحياة والحفاظ على القيم الأساسية الضامنة للعقد الاجتماعي والمستمد من ولاية الأمم على السلطات والموارد بعدالة وكفاءة، لم تكن سوى إجابة جاهزة مبسطة لسؤال كبير ملحّ، وهرباً من قسوة وملل البحث عن إجابة حقيقية.
*كاتب وباحث أردني