تُمارس الولايات المتحدة الأميركية هذه الأيام سياسة الكر والفر في تعاملها مع الأزمة السورية، فبعد أن فقدت المقاومة السورية زخمها، خاصة الفصائل التي تدعمها الولايات المتحدة، باتت الأخيرة غير قادرة على أخذ زمام المبادرة الكاملة في القضية السورية، فتارة ما تهدد الإدارة الأميركية بالانسحاب الكامل، وتارة أخرى ما تطرح إيقاف الدعم عن بعض الفصائل المقاتلة. لكن في الآونة الأخيرة، يتضح من مسار الأحداث بأنه لا توجد لدى إدارة الرئيس ترامب أية نوايا لسحبه قواتها، وبأنها باقية فيها إلى أن تتضح لها الأمور بشكل أفضل.
وبمنطق تحليلي، فإن ذلك يعود إلى عدة أسباب، أهمها القضاء الكامل على تنظيم «داعش» الإرهابي، ومواجهة النفوذ الإيراني الذي تمدد في الأراضي السورية بشكل منهجي، الأمر الذي بات يهدد أمن جميع دول المنطقة العربية وجوارها الجغرافي، والحد من خطورة «حزب الله» اللبناني الذي يشكل الذراع العسكري الفعَّال لإيران، وأخيراً الضغط العسكري والسياسي والمعنوي على نظام بشار الأسد.
ترى الولايات المتحدة بأنه من الأمور الحاسمة لمصالحها حيال الأزمة السورية أن تحافظ على وجود عسكري محدود، وحضور دبلوماسي من زاوية النقاط المشار إليها. هذا الطرح يذكرنا بما آل إليه الأمر في العراق عام 2011، في ما يبدو بأنه كان درساً قاسياً تعلَّمت منه الولايات المتحدة الشيء الكثير، وذلك عندما قررت إدارة أوباما الخروج مهرولة من العراق وتقديمه على طبق من ذهب لإيران التي عاثت فيه فساداً، وهي عملية انسحاب لا أخلاقية جعلت الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة يدفعون أثماناً باهظة إلى لحظة كتابة هذه السطور، وربما يدفعون الشيء الكثير على مدى المستقبل.
ورغم أنه لم تتجل حتى الآن سياسة أو استراتيجية يعتد بها للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تجاه المعضلة السورية، سواء كان ذلك من زاوية كيفية حلها.
أو الموقف تجاه بقاء النظام الحاكم في السلطة أو زواله منها، إلا أن المسألة السورية تبقى حائرة وتراوح مكانها، والتدخلات الخارجية في سوريا قائمة على قدم وساق، ما بين روس وفرس وأتراك وغربيين ومن شئتم من شتات الأرض.
إنه لأمر حميد أن تكون الولايات المتحدة قد تعلَّمت من درس الخروج من العراق، فذلك الخروج السريع، وعواقبه غير المدروسة بدقة سمح لـ«القاعدة» بالوجود المكثف في العراق، والوقوع في الشباك الإيرانية دون عناء، ولـ«داعش» لكي تشكل لنفسها دولة على أراضيه، وقس على ذلك الكثير من المآسي الأخرى.
لذلك، فإن عدم التزام الولايات المتحدة بمسؤولياتها كقوة عظمى وحيدة في عالم اليوم ربما يقود إلى النتائج نفسها التي تمخضت في العراق، ومن شأن ذلك أن يتيح لإيران فرصة ذهبية جديدة، خاصة أن «حزب الله» مخلب القط الإيراني، يوجد بكثافة عسكرياً على التراب السوري، وقريب جداً من عمقه الاستراتيجي في لبنان، لكي يعزز من الوجود الإيراني العسكري، ومن تمركز إيران الاستراتيجي انطلاقاً من الأراضي العراقية واللبنانية للسيطرة على كامل الأراضي السورية.
لذلك، فإن الولايات المتحدة يمكنها أن تنظر بشكل أوسع وأعم وأكثر شمولية وبُعد نظر إلى الجوانب الأمنية والاستراتيجية لوجودها في سوريا، وذلك بعيداً عن مناظير الربح والخسارة المالية التي تمارسها الإدارة حالياً وتنتظر من الآخرين تحمل تكلفتها، والقيام بتسديد فواتيرها.
ما نعتقده هو أنه لو خرجت الولايات المتحدة من سوريا سريعاً، وفرطت في وجودها القائم، فإنها قد تندم كثيراً على ذلك في ساعة لا ينفع فيها الندم، لأنَّ من شأن الانسحاب أن يسمح لإيران بالمزيد من التمدد والاقتراب من أهدافها الاستراتيجية في المنطقة.
*كاتب إماراتي