خلط كاتبو افتتاحية مجلة «الإيكونومست»، في عددها الصادر في 8 يونيو الجاري، بين إيران ودول أخرى مثل الصين والمكسيك والهند وغيرها، عندما استخدموا مفهوم أسلحة الاضطراب الشامل Weapons of mass-disruption لتحليل سياسة إدارة دونالد ترامب الخارجية.
وسيُحسب لهذه المجلة أنها صكت هذا المفهوم الجديد بعد أن سجلت «براءة اختراعه» بشكل مجازي، حين جعلته عنواناً لغلافها. لكن كاتبي افتتاحية ذلك العدد توسعوا في استخدام المفهوم الجديد، وقصدوا به «عسكرة أدوات أميركا وإمكاناتها الاقتصادية الكبيرة»، على نحو يحوّلها إلى أسلحة اضطراب شامل. ويستمد هذا المفهوم أحد عوامل أهميته من طريقة صياغته بحيث يكون مقابلاً لمفهوم أسلحة الدمار الشامل Weapons of mass-distruction، وربما يصبح أكثر أهمية إذا ثبت ما يتوقعه كاتبو الافتتاحية، وهو أن عسكرة الأدوات الاقتصادية قد تصير نمطاً للقوى العظمى في القرن الحادي والعشرين.
فقد وقع كاتبو افتتاحية «الإيكومنوست» في إغراء التوسع في استخدام مفهوم أسلحة الاضطراب الشامل، والسعي لجعله جامعاً مانعاً يمكن تطبيقه على أي نزاع بين الولايات المتحدة ودول أخرى. وعندئذ تتساوى النزاعات، بغض النظر عن دوافع كل منها، ومن دون تمييز بين عوامل سياسية وأخرى تجارية وثالثة أمنية، وراء هذه النزاعات.
وفي غياب مثل هذا التمييز، تُغفل الفروق بين نزاعات تجارية أولاً وآخراً، مثل النزاع بين الولايات المتحدة والصين، وأخرى ذات طابع أمني، أي يتعلق بنظرة إدارة ترامب إلى الأمن القومي الأميركي مثل النزاع مع المكسيك، وثالثة سياسية ترتبط برؤية إدارة ترامب إلى قضية الاستقرار في هذه المنطقة أو تلك، والأطراف التي تهدد هذا الاستقرار، مثل النزاع مع إيران، أو مع كوريا الشمالية. وعندما لا تؤخذ هذه الفروق في الاعتبار، يتعذر التمييز بين نزاع ذهبت إليه إدارة ترامب مختارةً أو بادرت به، وآخر اضطرت إليه اضطراراً لأنها لم تجد بديلاً عن خوضه أو لرغبتها في تصحيح خطأ ارتكبته إدارة سابقة ورأت أن مواصلة السير في الاتجاه الذي حددته هذه الإدارة يمكن أن تترتب عليه عواقب وخيمة.
صحيح أن «عسكرة الأدوات الاقتصادية» الأميركية، أي تحويلها إلى ترسانة لا تقل قوتها التأثيرية عن القدرات العسكرية الضخمة، مثل حاملات الطائرات الأحد عشر، والرؤوس الحربية النووية التي يصل عددها 65000 رأس، تخلق حال اضطراب في النظام العالمي، أو بالأحرى تزيده اضطراباً. فلدى الولايات المتحدة «ترسانة» اقتصادية لا تُضاهى في قوتها وتأثيرها، رغم انخفاض إسهامها في الناتج الإجمالي العالمي من 38% عام 1969 إلى 24% الآن.
غير أن التمييز بين الحالات التي تستخدم فيها إدارة ترامب هذه الترسانة ضروري لتجنب أخطاء كبيرة تنتج عن الخلط بينها. خذ مثلاً الفرق الملموس بين حالتي القيود على التبادل التجاري مع الصين، والعقوبات الاقتصادية على إيران. ربما كان بإمكان إدارة ترامب إيجاد بديل عن فرض رسوم مرتفعة على بعض واردات الولايات المتحدة من الصين، أو حظر التعامل مع بعض شركاتها الكبرى. ومازال باستطاعتها أن تضع سقفاً لتصعيد هذا النزاع التجاري، وتجنيب الاقتصاد العالمي خسائر ستترتب على المضي قدماً فيه. ولذا، تبدو الفكرة المتضمنة في مفهوم أسلحة الاضطراب الشامل صحيحة في حال النزاع مع الصين، رغم أن إدارة ترامب تبدو على حق في بعض أسانيدها لتبرير تصعيد هذا النزاع.
لكن الأمر يختلف في حال النزاع مع إيران، فقد جربت الولايات المتحدة أساليب عدة في تعاطيها مع الأزمات التي تخلقها السياسة الخارجية الإيرانية، منذ مرحلة «تصدير الثورة»، وحتى مرحلة التمدد الإقليمي والتوسع في برامج التسلح، وصولاً إلى الاقتراب من امتلاك قدرات نووية يمكن استخدامها لأغراض عسكرية. وكان آخرها التفاوض وتوقيع اتفاق البرنامج النووي (يوليو 2015) الذي قررت إدارة ترامب الانسحاب منه، وأعادت فرض العقوبات الاقتصادية على طهران، وتوسعت فيها وصولاً إلى الوضع الراهن الذي بات خانقاً.
ورغم أن «الإيكونومست» أصابت في تقدير بعض التداعيات السلبية لاستخدام أميركا ترسانتها الاقتصادية، فقد جانبها الصواب في اتهام إدارة ترامب بأنها تضع العلاقات مع دول أخرى على حافة الهاوية بطريقة لاعبي البوكر. فقد التزمت هذه الإدارة الحذر، وحسبت خطواتها تجاه كل من كوريا الشمالية وإيران، وحرصت على ضبط النفس، حتى في لحظات تعرضت فيها لاستفزازات، آخرها إسقاط طائرة مسيرة فوق مضيق هرمز الأسبوع الماضي.

*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية