من زاوية ما، لن يتغير الكثير بفوز مرشح المعارضة في انتخابات رئاسة بلدية مدينة إسطنبول. فما زال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أطول حكام الجمهورية التركية بقاءً في السلطة، يهيمين على أدوات السلطة القومية. وحزبه الحاكم ما زال يسيطر على مجلس البلدية، وقد يقيد حركة عمل رئيس البلدية الجديد. وليس من المتوقع حالياً أن تعقد تركيا انتخابات جديدة، سواء للرئاسة أو لمجلسها التشريعي القومي، حتى عام 2023.
لكن فوز أكرم إمام أوغلو في إسطنبول، يوم الأحد الماضي، كان زلزالاً سياسياً، تبعته هزات ربما تخطى تأثيرها أكثر مدن تركيا سكاناً وحدود البلاد. فقد مُني واحد من كبار زعماء العالم غير الليبراليين بالهزيمة، وانتعش أمل الديمقراطية المهترئة في بلاده.
وكانت الانتخابات إعادةً لتصويت أجري في 31 مارس، فاز فيه إمام أوغلو، بفارق ضئيل على «بن علي يلدريم» رئيس الوزراء السابق، والمرشح الذي اختاره حزب أردوغان، «العدالة والتنمية»، واُعتبرت نتيجة التصويت الأول ضربة شديدة لأردوغان، المولود في إسطنبول، والذي دشن مسعاه السياسي كرئيس لبلدية المدينة.
ومنذ بداية أبريل الماضي، تحرك الرئيس التركي وحلفاؤه نحو إلغاء النتيجة، مشيرين إلى حدوث مخالفات. وقضت السلطات، التي تخضع إلى حد كبير لسيطرة أردوغان، بأنه يتعين إعادة الانتخابات. ودفع القرار المحللين في الخارج إلى الشروع في كتابة مقالات تأبين لديمقراطية البلاد، التي رأوا أنها تختنق ببطء تحت حكم أردوغان السلطوي. المفاجأة أنه لم يفز إمام أوغلو مرة أخرى فحسب، بل وسّع هامش الفوز بشكل كبير، ليزيد على 800 ألف صوت.
ومن العوامل المهمة التي ساعدت في انتصار إمام أوغلو، الحالة الخطيرة التي يواجهها الاقتصاد التركي. فعلى مدار سنوات استطاع أردوغان الاعتماد على سجل من النمو المزدهر، ومشروعات البنية التحتية الطموح والإصلاحات الاقتصادية، التي صعدت بملايين الفقراء من الأتراك إلى الطبقة الوسطى. لكن الازدهار قام على قدر مذهل من الديون، وهذه الديون أصبحت واجبة السداد. وشهد العامان الماضيان هبوطاً مروعاً لقيمة الليرة التركية، مما أدى إلى ارتفاع التضخم والبطالة والركود في النصف الثاني من عام 2018.
أردوغان لم يستطع تخفيف حدة القلق الاقتصادي المتصاعد لدى الناخب العادي في إسطنبول. وعلى مدار سنوات، استطاع أن يضمن انتصاراً في الانتخابات، من خلال سياسات استقطابية، ركزت على المظالم مجتذباً الأتراك المتدينين الذين تعرضوا للإهمال من قبل، مثيراً الاستياء من النخب العلمانية، ومصوراً خصومه المختلفين باعتبارهم بلا شرعية ويمثلون تهديداً للأمة. إنها صيغة من السياسات اليمينية شاعت على امتداد العالم في العقد الماضي، وكانت تضمن لأردوغان دوماً فيما يبدو نسبة تزيد قليلاً عن 50% من الأصوات.
ويرى «سونر جابتاي»، الباحث التركي في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، أن «أردوغان ربما ابتدع عالمياً هذا النمط من شعبوية القرن الحادي والعشرين. لكن حدود هذا النهج مرتبط بالنمو الاقتصادي. فحين يكون أداء الاقتصاد جيداً، يستهوي هذا النوع من الخطاب القاعدة الشعبية. وأجدى هذا نفعاً، فيما لا يقل عن عشرة انتخابات خاصها أردوغان». لكنها لم تجد نفعاً هذه المرة.
لكن ليزيل هينتز، أستاذ الدراسات الدولية في جامعة جونز هوبكنز، ترى أن إمام أوغلو يستحق الإشادة لعدم تورطه في السياسة الاستقطابية. فلم تجتذب رسالته الخاصة باحتواء الجميع الأقليات وقاعدة حزبه التقليدية من العلمانيين واليسار التركي فقط، بل اجتذبت أيضاً الناخبين المحافظين. وفي الاجتماع، الذي أعلن إمام أوغلو فيه فوزه، رفع أنصاره أيديهم راسمين بها قلوباً، ليعبروا بها عن حبهم. وتعتقد هينتز أن رسالة الحب هذه تمثل ترياقاً، فيما يبدو ضد آلاعيب «الرجال الأقوياء الشعبويين القوميين» مثل أردوغان ورودريجو دوتيرتي في الفلبين، وفيكتور أوربان في المجر، ونيكولاس مادورو في فنزويلا.
وكتب مراد سومر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كوك في إسطنبول، يقول: إن فوز إمام أوغلو يوضح أن «صعود السلطوية يثير قوة مساوية لرد الفعل المؤيد للديمقراطية». لكن الاختبار الآن يتعلق بمدى الصمود المحتمل لفوز إمام أوغلو. ويرى «كمال كيرستي»، من معهد بروكينجز، أن ما يحدث في تركيا ربما يكون بداية إصلاح ديمقراطي واسع النطاق. وأشار إلى الاحتجاجات في الآونة الأخيرة في جمهورية التشيك وهونج كونج، وصعود القوى الليبرالية الجديدة في أوروبا، لكنه حذر من التفكير بالتمني، نظراً لثقل أردوغان وقوته السياسية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»