في لقاء جمعني مؤخراً بشخصية سياسية أوروبية معروفة تسلمت وظائف سامية في بلدها، تناول الحديث الأزمة البنيوية الحادة التي يعرفها راهناً المشروع الاندماجي الأوروبي الذي كنا نعتبره النموذج الذي ينبغي للعرب اعتماده لتسديد ودفع الفكرة الوحدوية العربية .
قالت لي الشخصية الأوروبية المذكورة إنما تشهده القارة العجوز ليس أقل من انهيار كامل للنموذج الحداثي والتنموي الذي شكل خصوصية أوروبا، وكان السر في تصدرها لقيادة العالم طيلة القرون الثلاثة الماضية.
فإذا كانت أوروبا عرفت حروباً أهلية دامية في نهاية العصور الحديثة وبدايات عصر النهضة على غرار ما يعرفه العالم العربي الإسلامي حالياً، إلا أنها أبدعت الآليات الثلاث الكبرى للتطور التقني والاقتصادي والرفاهية السياسية والاجتماعية وهي : شكل الدولة القومية السيادية التي قضت على الهويات الخصوصية الدينية والعرقية والديمقراطية التعددية المنظمة، التي حلت مشكل الصراع السياسي على السلطة، وكرست معايير عقلانية توافقية للشرعية السياسية والليبرالية الاقتصادية الحرة، التي ولدت الدوافع الفاعلة للإنتاج والعمل والإبداع. وقد كان الطموح في وضع المشروع الأوروبي هو توطيد هذا النموذج الثلاثي من خلال الشراكة الوثيقة والسيادة المتقاسمة لتأمين استمرارية التفوق الأوروبي.
بيد أنما نشهده حالياً هو دخول أوروبا في أزمة عميقة، طالت النظم الثلاثة المذكورة إلى حد أن الفيلسوف الفرنسي «رجيس دوبريه»، الذي أصدر مؤخراً كتاباً بعنوان «أوروبا الوهمية» لم يتردد في الحكم على أوروبا أنها خرجت نهائياً من التاريخ.
ما يعنيه «دوبريه» بالاستناد إلى قولة الأديب الفرنسي «بول فاليري» الشهيرة حول «نهاية أوروبا» في منتصف القرن الماضي، ليس تراجع القوة الاستراتيجية الأوروبية في النظام الدولي، ولا حتى الأزمة المؤسسية التي تعرفها هياكل الاتحاد الأوروبي منذ سنوات، وإنما انحسار الزخم الرمزي والروحي للمشروع الأوروبي الذي بدأ منذ القرن الثامن عشر حلماً طوبائياً لدى الفلاسفة والأدباء قبل أن يتولاه السياسة والاقتصاديون في النصف الثاني من القرن العشرين ويشهد طفرة سريعة بعد نهاية الحرب الباردة .
يذهب «دوبريه» إلى أن الفكرة الأوروبية الموسعة أدت دور الأيديولوجيا التعبوية التي عوضت بعد الحرب الباردة الأيديولوجيات المتصارعة، ولكنها تحققت عملياً من خلال تحالف غريب بين قوتين سياستين متناقضتين هما اليسار الاجتماعي والديمقراطية المسيحية، وقد انهار هذا التحالف بانهيار الكتلتين اللتين اختفتا عملياً من المشهد السياسي الأوروبي، فتحول المشروع الأوروبي إلى منظومة تقنية اقتصادية يديرها الخبراء والفنيون ولم يعد لها علاقة بالحلم الطوبائي الذي بلوره الفلاسفة والأدباء منذ فولتير إلى نتشه.
توقع الصديق الأوروبي، الذي أشرت إلى الحديث معه عودة القارة إلى وضع سياسي متوتر يشبه ثلاثينيات القرن الماضي، التي عرفت الموجة النازية والفاشية والحروب العالمية المدمرة معتبراً أن الأنظمة الشعبوية غير الليبرالية لا تختلف في الجوهر عن تلك الأنظمة القومية الراديكالية العنيفة. وإذا كان هذا الاحتمال قد يكون موغلاً في التشاؤم، إلا أن المجتمعات الأوروبية تبدو راهناً عاجزة عن حل إشكالين جوهريين يتعلق بها مستقبل النموذج الأوربي وهما: قدرة المنظومة الليبرالية الاقتصادية المعولمة على تحقيق التوازن بين الفاعلية الإنتاجية المتنامية والحقوق الاجتماعية التي تزداد ضيقاً وتردياً بما يفسر الحركات الاحتجاجية الجديدة وتغير القاعدة الانتخابية للطبقات العاملة والمهمشة لصالح الحركات الشعبوية، وقدرة الديمقراطية الانتخابية التمثيلية على تحقيق التوازن بين مبدأ حرية الاختيار وشرعية النظام السياسي في تعبيره عن الهوية الجماعية والإرادة المشتركة العامة.
لقد اعتبر «رجيس دوبريه» أن السبب الحقيقي لإفلاس المشروع الأوروبي هو سبب ثقافي يرجع إلى تحلل المفهوم الأوروبي في المنظور الغربي الذي انتهى في نهاية المطاف إلى التماهي مع الحالة الأميركية المعممة في شكل كونية مفروضة لا علاقة بالمتخيل الأوروبي الأصلي الذي تأسس على المرجعية الروحية والفكرية المتوسطية من خلفية يونانية رومانية وتقليد يهودي- مسيحي وتنوير إنساني، وأصبح اليوم يمتاح من الرافد البروتستانتي النفعي الأميركي بما يقوم عليه من قيم المرحلة التي هي الشفافية المطلقة والتبادل غير المقيد والحركية المفتوحة، في مقابل زمنية الخلاص الممتدة والتباس المعنى المكتوب ومركزية القيادة السياسية العمودية.
قد نكون نعيش بداية حقبة غير مسبوقة منذ العصور الحديثة، وهي نهاية القدرة الاستقطابية التأثيرية للنموذج الأوروبي، بحيث لأول مرة منذ عصور التنوير لم تعد أوروبا أفقاً للاحتذاء ومثالا للاقتداء.
وإذا كان الفيلسوف الألماني «هوسرل» قال في بدايات القرن العشرين إن مستقبل السؤال الفلسفي هو الحالة الأوروبية، فإن الأزمة التي تعرفها راهنا هذه الحالة تشكل تحدياً كبيراً للفكر الإنساني.
*أكاديمي موريتاني