أسفرت انتخابات الإعادة لاختيار عمدة إسطنبول عن فوز مرشح حزب الشعب «الجمهوري» المعارض، وكانت هذه هي نتيجة الجولة الأولى، غير أن أردوغان طلب أولاً إعادة فرز الأصوات، فلما أكدت النتيجة طلب إعادة الانتخابات بحجة وجود مخالفات شابت العملية الانتخابية وقوضت صدقيتها، وسواء كانت اللجنة المنظمة للانتخابات قد اتخذت قرار الإعادة تحت ضغط أو عن اقتناع، فإن النتيجة كانت كارثية بالنسبة لأردوغان ومصدر سعادة بالغة لخصومه، ذلك أن إعادة الانتخابات لم تؤد إلى تثبيت مرشح المعارضة في منصب عمدة إسطنبول فحسب وإنما اتسع الفارق بينه وبين خصمه من 13 ألف صوت إلى 800 ألف صوت أي بأكثر من ستين مِثْلاً، وتأكدت خسارة أردوغان للعاصمتين الاقتصادية (إسطنبول) والسياسية (أنقرة) في تطور لا تخفي دلالته وإنْ تباينت لدى المعلقين كل حسب موقفه الفكري والسياسي، فمن كان نصيراً لأردوغان اعتبر النتيجة دليلاً على «ديمقراطية» نظامه، ومن كان خصماً له اعتبرها مقدمة لأفول هذا النظام، والواقع أنه يصعب القبول بوجهة نظر الأنصار على إطلاقها، فقد استخدم أردوغان نفوذه في إعادة فرز الأصوات ثم في إعادة الانتخابات ذاتها، ولعل هذا السلوك قد استفز شرائح وقفت على الحياد في الانتخابات الأصلية، فجاء هذا الفارق الكبير الذي كان من المستحيل التعامل معه بمنطق التزييف، خاصة أن الميراث الديمقراطي في تركيا ليس من الضعف بحيث يُسَهل تزييف إرادة قرابة مليون ناخب، أما وجهة نظر الخصوم، فمبعث أهميتها أن الانتخابات قد جرت في مناخ تراجع اقتصادي، وتأزم واضح في علاقات تركيا الخارجية.
فقد بدأ حزب «العدالة والتنمية» حكمه في ظل مبدأ «صفر مشاكل» الذي صكه أحمد داوود أوغلو، وزير الخارجية، رئيس الوزراء السابق، أما الآن فإن السياسة التركية الخارجية هي سياسة «الحد الأقصى من المشاكل»، فهي على خلاف مع كل الدول العربية تقريباً باستثناء النظام القطري وحكومة الوفاق الوطني في ليبيا بسبب رعايتها مشروع ما يُسمى بالإسلام السياسي، وكذلك بسبب المبالغة الممقوتة في اعتبارات الأمن القومى التي تجعلها تتدخل عسكرياً تدخلاً مباشراً في سوريا والعراق.
وعلى الصعيد الإقليمي، تتصادم سياستها مع السياسة الإيرانية في سوريا رغم الحرص التركي على عدم التضحية بإيران، كذلك فإن الادعاء التركي بحق جمهورية شمال قبرص التركية التي لا يعترف بها أحد سوى تركيا في التنقيب عن الغاز في المياه القبرصية، قد استعدى عليها دول شرق المتوسط وصنع أزمة حقيقية في علاقاتها بالاتحاد الأوروبي بحكم عضوية قبرص فيه، ويُضاف إلى هذا أزمة العلاقة مع الولايات المتحدة بسبب صفقة صواريخ إس 400 مع روسيا التي توترت علاقتها بتركيا مع ذلك بسبب شبهات دعمها الإرهاب أو على الأقل سكوتها عليه في إدلب، وهكذا تكاد تركيا أن تكون في حرب مع الجميع، أي أن خسارة انتخابات إسطنبول أتت في سياق أزمة حقيقية يواجهها النظام التركي.
ولا يعنى ما سبق نهاية نظام أردوغان بالضرورة، ذلك أنه يستطيع بالإدراك السليم للموقف أن يتخذ خطوات تصحيحية قد تقوم الاعوجاج في سياساته، لكن المشكلة أن هذه السياسات تُمَثل جوهر نظامه ولا يستطيع التخلي عنها ببساطة، بالإضافة إلى وجود مؤشرات قوية على عدم إدراكه المغزى الحقيقي للهزيمة، ويُعَد سوء الإدراك أو «العمى الإدراكي» من أخطر الظواهر بالنسبة لرشادة عملية صنع القرار، فمع هذا «العمى» تكون ردود أفعال صانع القرار لواقع موجود في مخيلته هو وليس في الحقيقة كمن يلبس نظارة غير دقيقة تشوش عليه أماكن الأشياء فيصطدم بها ويتعثر، وقد استضافت الفضائية البريطانية باللغة العربية ممثلاً عن حزب أردوغان ومحللاً ينتمى للمعارضة، وقد لجأ ممثل الحزب الحاكم إلى التسفيه من شأن الهزيمة معلقاً بأن المعارضة قد كسبت موقعاً تجمع بموجبه القمامة من شوارع إسطنبول، وذُهلت من قوله، وكذلك المحلل التركي الذي ذكره بأن أردوغان بدأ صعوده السياسي من هذا الموقع وبأنه صاحب المقولة الشهيرة أن «من يحكم إسطنبول يحكم تركيا»، وبأنه لو كان الأمر مجرد جمع للقمامة فلماذا تجشم أردوغان كل هذه المشقة التي نالت من صدقيته ثلاث مرات، أولاها حين طلب إعادة فرز أصوات الجولة الأولى، وثانيتها بطلبه إعادة الانتخابات، والثالثة بخسارته الفادحة فيها على نحو لا يبدو أنه فهم مغزاه حتى الآن.
*أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة